حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

بعد «نقاء العقيدة» تأتي «الوطنية»

كنت أحتسي القهوة مع أحد الأصدقاء، وانضم إلينا شخص لا أعرفه ولكنه يعرف صديقي. وبدأنا في تناول أطراف الحديث كما هي العادة في مثل هذه المواقف، وتطرق الرجل إلى أحد الأشخاص وقال واصفاً إياه «إنه وطني» فاستدرت إليه متعجباً، وطلبت منه توضيحاً عن قصده، وكيف تقاس الوطنية بالنسبة إليه فلم يجب بما هو مقنع. وتذكرت أن «الوطنية» هي الآن نكهة الشهر، تماماً كما كانت قبلها مرحلة «نقاء العقيدة» التي كانت تعتمد على التشكيك في سلامة عقيدة الناس، وكأنهم جهاز أشعة مقطعية لديهم القدرة على الاطلاع على قلوب الناس وتقييمها.
والغريب أن كلمة العقيدة هي كلمة غريبة ومبتدعة، ولا وجود لها في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، فلم تأتِ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا الخلفاء الراشدين ولا الأئمة الأربعة، وتم استخدامها كوسيلة ترهيب وتهديد وبث للرعب والفتنة.
هناك رابط خفي بين التعصب الديني والتعصب باسم الوطنية، كما يظهر لنا ذلك التاريخ عبر الكثير من الأمثلة المختلفة. فمثلاً ظهور النازية كان أساسه تعصباً دينياً مسيحياً، حتى أن الحركة اعتمدت في شعارها الصليب المعقوف، وكذلك الأمر بالنسبة لحركة كوكلاكس كلان العنصرية التي هي أيضاً اتخذت الصليب شعاراً لها، ولا ننسى حركة الصهيونية التي بنت حجتها على شعارات ومبادئ يهودية ومسيحية متطرفة. واليوم يظهر عدد هائل من الحراك الوطني المتطرف في العالم عموماً وفي العالم العربي تحديداً يسعى إلى التشكيك في «انتماء» الناس إلى أوطانهم، والتساؤل الخبيث والجاهل عن أصولهم ونعتهم بالمتجنسين، وهي دلائل على حالة مرضية خطيرة من سرطان الشعوب المعروف بالعنصرية. هذه النوعية من المجتمعات تستمر في البحث عن «عدو» لتبرر من خلاله غضبها وعجزها، فتارة يكون العدو من الخارج وتارة أخرى من الداخل، كل ذلك هدفه التنفيس عن الخيبة والجهل. هذه الشعوب لن تراها أبدا تتبوأ قوائم الأكثر سعادة والأكثر تمتعاً بجودة الحياة والأكثر رخاء.
السعادة مرتبطة دوماً بتحقيق منظومة وثيقة وعادلة للسلم الأهلي، فالعنصرية كانت شرارة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكانت أيضاً شرارة الحروب الأهلية في أميركا وإسبانيا ولبنان وفيتنام. العنصرية هي رأس الفتنة والسرطان المدمر للشعوب، وهي مسألة فطنت إليها دول مثل النرويج وفنلندا والدنمارك ونيوزيلندا وكندا وأستراليا، فقامت بتحقيق منظومة عدلية متوازنة أساسها المساواة في المواطنة تحت سقف القانون الموحد. لا مجال للتفاضل ولا تحديد التكافؤ الخبيث إلا بمنظومة الحقوق والواجبات التي يكفلها الدستور.
الحديث عن الوطنية ودرجاتها فيه قدر عظيم وهائل من إهانة العقل بشكل لا يقبل لأنه من الطبيعي أن يكون الإنسان لديه الحس والوعي المسؤول بالانتماء ما دام تحققت منظومة العدل والحقوق، أما متى ما تم «تقييم» الوطنية بحسب الأهواء الشخصية والمعايير الخاصة عدنا حينئذ إلى لغة التكفير مجدداً ومن ثم إلى عدوى وعادة التصنيف المدمرة. هكذا يتم تفتيت الشعوب وتدميرها وتحطيم المجتمعات وتشويهها. وما دام استمرت الأصوات التي تخون الغير وتصنف وطنيتهم سيستمر السرطان العنصري في الانتشار والتمدد والتوسع.
المجتمعات السوية تكبر وتنمو وتقوى بقدرتها على توحيد نفسها وإزالة الفروقات والتصنيفات الجانبية التي لا تؤدي إلى أي شيء سوى المزيد من الانشقاقات داخل المجتمع الواحد، لا فرق في هذا الأمر سواء أكان باسم الدين أو باسم الوطنية، ففي الحالتين هي نيات حسنة تعبد طريقاً إلى النار والجحيم.
مارتن لوثر كينغ زعيم الحقوق الأميركي المشهور له مقولة عظيمة تصلح للشعوب جميعاً: «علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة أو الفناء معاً كأغبياء».