خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

صوت صفير البلبل

الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور من مشاهير البخلاء في التاريخ العربي والإسلامي. كثيراً ما ضُرب المثل ببخله وضيق يده. لا أدري إن كان ذلك منه طبعاً أو تطبعاً. ولكن يَلوح لي في سلوكه هذا شيء من ضرورات الحكم والإدارة، وهو موازنة المصروفات والواردات. فقد انهمك المنصور عندئذ ببناء مدينة بغداد، عاصمة ملكه الجديدة بشكل ونحو يجعلها عروس ذلك العالم الذي عاصره. وكما نعلم وردت حكايات وأوصاف وتقارير عديدة في ذكر المدينة بأسوارها وقلاعها وقصورها. ولا بد أن ذلك استنفد كل ما في خزينة بيت المال من موارد وجعل المنصور يقتر في كل ما يزمع صرفه. وهكذا شاعت أخباره وحكاياته في أمر البخل، فليس من طبع الشعراء والأدباء والكتّاب الذين دوّنوا له ورووا عنه أن يقبلوا بشيء غير اليد المبسوطة والممدودة إليهم بالهدايا. هكذا روى الأصمعي عنه حكاية حفظه للشعر وقصة تلك القصيدة الظريفة التي تحدى بها ذاكرة الخليفة وذاكرة حاجبه وجاريته:

صوت صفير البلبل
هيَّج قلبي الثمل

وردت فيما سواها حكايات عديدة عن شحه. وقد وجدت من أظرفها ما قرأته في كتاب الأبشيهي «المستطرف في كل فن مستظرف». وهي حكاية ترددت في أكثر من مصدر واحد. وها أنا أمضي فأضيف إليها في هذا العمود كمصدر جديد آخر من «الشرق الأوسط».
يقول صاحب الحكاية إن أبا جعفر المنصور، الشديد البخل جداً، كما وصفه القائل، اصطحب معه في سفرة الحج إلى بيت الله الحرام، مسلم، الحادي المشهور بصوته الرخيم وحدائه الجميل. فحدا له في طريقهما قول الشاعر:

أغر بين الحاجبين نوره
يزينه حياؤه وخيره
ومسكه يشوبه كافوره
إذا تغدى رفعت ستوره

يقول الراوي: «فطرب الخليفة المنصور لذلك طرباً شديداً حتى راح يضرب برجله المحمل. فالتفت إلى حاجبه وقال: يا ربيع، أعطه نصف درهم. فاستاء الحادي من هذا المبلغ الزهيد فقال للخليفة: نصف درهم يا أمير المؤمنين! والله لقد حدوت لهشام فأمر لي بثلاثين ألف درهم. فانتصب الخليفة في جلسته وقال لمسلم: تأخذ من بيت مال المسلمين ثلاثين ألف درهم! ثم قال للحاجب: يا ربيع وكل به من يستخلص منه هذا المال»!
قال ربيع في ذلك: «فما زلت أمشي بينهما وأروضه حتى شرط مسلم على نفسه أن يحدو له في ذهابه وإيابه بغير مؤونة»!
وهكذا سافر خليفة المسلمين وأدى فريضة الحج وعاد إلى عاصمة ملكه بغداد ومسلم الحادي يحدو له مجاناً ولوجه الله تعالى.