ماك مارغوليس
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

الرئيس البرازيلي الجديد ومخاطر الأرض المجهولة

لإنقاذ البرازيل من أسوأ كوارثها الاقتصادية التي تحملها الذاكرة، وربما من أسوأ ما تعينه عليه غرائزه كأحد أنصار المنهج السياسي المتشدد، يحاول الرئيس البرازيلي المنتخَب حديثاً جايير بولسونارو، الاعتماد على فريق عمل مخضرم من المتدربين السابقين في جامعة شيكاغو، ومن المؤيدين لسياسات الأسواق. وكان اختياره لمنصب وزير العدل هو سيرغيو مورو بطبيعة الحال، وهو القاضي الاتحادي الذي ترأس التحقيقات في فضيحة كارواش البرازيلية الشهيرة، التي تعد أكبر قضية فساد سياسي في قارة أميركا اللاتينية.
إذن، مَن سيكون وزير خارجية السيد بولسونارو الجديد، والقافز المظليّ المخضرم الذي سوف يهبط لا محالة في عالم غامض وعالق فيما بين الحرب الباردة الجديدة التي باتت تَلوح في الأفق والصراع التجاري المحتمل والخارق للمعاهدات التجارية المبرمة؟
أجل، تحتاج كل الحكومات الجديدة إلى وقت كافٍ – والكثير من التجربة والخطأ – حتى ينضبط مسارها تماماً. ومع ذلك، فإن خطاب السيد بولسونارو العدائي قد أثار بالفعل حفيظة الكثيرين من عملاء البرازيل على الصعيد العالمي، وأهمل الحلفاء الإقليميين، وأغضب الشركاء التجاريين المحوريين – وجاء كل ذلك قبل أسابيع من توليه منصبه الرئاسي بالفعل. لقد شكّلت تصريحات بولسونارو الحادة عدة صفعات قوية لدى الأرجنتين، والصين، وأغلب بلدان العالم العربي حتى الآن.
وصحيح أن بولسونارو لم يكد يلقي بهذه القنابل الدبلوماسية الحارقة حتى تراجع إلى اتخاذ مواقف ذات صبغة عالمية وأكثر تقبلاً وحماسة. ويقول بولسونارو إنه يتعين الآن إسقاط اتفاقية باريس المناخية المعلّقة في الفراغ بشأن فحوى التغيرات المناخية المهددة. وماذا بشأن هؤلاء الإمبرياليين الاقتصاديين الصينيين الذين لا يرغبون في شراء المنتجات البرازيلية فحسب وإنما «شراء البرازيل» نفسها؟ لقد خفّت حدة هذه الخطابات الهجومية الرعناء بحثاً عن العلاقات الدولية المثمرة.
إن محور الاعتدال يتمثل في الإذعان لقوانين الواقع. ولننظرْ في شأن تصريح بولسونارو الأخير بأنه ينوي الدفع بحقيبة وزارة الخارجية إلى أحد الدبلوماسيين المخضرمين مع اعتبار خوسيه الفريدو غراكا ليما، مستشار منظمة التجارة العالمية المبجل والمبعوث البرازيلي الأسبق إلى الاتحاد الأوروبي، على رأس القائمة الموجزة.
قد يكون ذلك من قبيل النعم الجليلة. وحتى وإن كان السلام العالمي لا يتوقف على القرارات السياسية المتخذة في العاصمة البرازيلية، فإن ضبط مسار السياسة الخارجية في البرازيل يعني الكثير بالنسبة إلى ثروات الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية والعالم الخارجي، في حين أن تجاهل الأصدقاء التقليديين قد يرجع بنتائج عكسية وخيمة مع مرور الوقت.
ومع كل هذا الحديث عن الابتعاد عن الأساليب القديمة، يأتي بولسونارو إلى الرئاسة محمّلاً بمسؤولية حماية الإرث الوطني الهائل للبلاد. وبعد سنوات ممتدة من التراجع، باتت صناعة النفط والغاز الطبيعي الوطنية في توسع مستمر، مع شركات الحفر والتنقيب الأجنبية التي تتسارع للحصول على حصص معتبرة من الاحتياطي البحري الواعد في البلاد. ويؤدي الطلب العالمي إلى ارتفاع أسعار فول الصويا واللحوم ولب الخشب البرازيلي.
ولقد نمت صادرات البرازيل من لحوم الأبقار إلى البلدان الإسلامية بنسبة 16% على أساس سنوي منذ عام 2000، حيث بلغت 4.7 مليار دولار العام الماضي، وفقاً لماركوس جانك الخبير الزراعي البرازيلي. وتعهدات بولسونارو باقتفاء خطى الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونقل سفارة البرازيل من تل أبيب إلى القدس من شأنها أن تُعرّض هذه العلاقات التجارية الجيدة لمخاطر جمّة. وكان ذلك واضحاً للغاية عندما قررت مصر، وبشكل مفاجئ، إلغاء زيارة وزير الخارجية البرازيلي إلى القاهرة مؤخراً. ولا عجب أن بولسونارو ينفي في الآونة الراهنة اتخاذ أي قرار رسمي بشأن نقل سفارة بلاده إلى القدس.
ولا يوجد مجال ترتفع فيه المخاطر الاقتصادية لدى البرازيل أكثر من علاقاتها مع الصين؛ إذ تعد الصين أكبر مستثمر منفرد لدى البرازيل، وأفضل عملاء البرازيل قاطبة، حيث تشتري بكين كل شيء من البرازيل بدءاً من فول الصويا حتى خام الحديد. واستوردت الصين ما يقارب 30 مليار دولار من البرازيل خلال النصف الأول من العام الحالي، مما يعد ارتفاعاً بنسبة 11% عن العام الماضي، وفقاً لبيانات وزارة التجارة. وبلغ حجم التجارة الثنائية نحو 44.8 مليار دولار بين البلدين عن الفترة نفسها، مع البرازيل التي حققت فائضاً يقترب من 14.8 مليار دولار جراء ذلك.
وفي ذلك قال لويز أوغوستو دي كاسترو نيفيز، السفير البرازيلي الأسبق لدى الصين ورئيس مجلس الأعمال الصيني - البرازيلي المشترك: «تحقق الصين نمواً بمعدل يوازي ضعف المعدل العالمي لبقية الدول، وتتحول إلى الاقتصاد المدفوع بالاستهلاك. وهذا يعني أنها سوف تقود الطلب العالمي ليس فقط من حيث الغذاء ولكن من حيث السلع المصنعة التي ننتجها. وإغضاب الصين لخدمة بعض الأغراض السياسية يعد بمثابة إطلاق المرء النار على نفسه».
كما لا يعد التراجع والإذعان لبكين من السياسات الخارجية الصحيحة كذلك. تقول مارغريت مايرز من مؤسسة الحوار الأميركي المشترك، والتي رسمت خرائط استثمارات البنية التحتية الصينية في أميركا اللاتينية: «إن كانت البرازيل تحاول التصرف استراتيجياً، فينبغي عليها التفكير بشأن الشراكة مع الصين، وضمان تنويع المصادر التجارية، والتفاعل مع المبادرات المختلفة، وتعزيز الإمكانات الصناعية. ووفق الحد الذي ترغب الحكومة البرازيلية الجديدة في خصخصته، سوف تكون لدى الصين اهتمامات كبرى بشأن الاستثمارات المتاحة هناك».
وقد يكون من السابق لأوانه القول إن العملة الصينية قد انخفضت لصالح بولسونارو. ويقول أوليفر ستونكيل، أستاذ العلاقات الدولية في مؤسسة «غيتوليو فارغاس» في ساو باولو: «على غرار ترمب، فإن بولسونارو ليس رئيساً عادياً، ولذلك من الحمق الاعتقاد باعتماده سياسة خارجية عادية. فلقد تم انتخابه لتغيير بعض الأمور التقليدية المعهودة ولَسوف يقوم بذلك فعلاً».
والتودد إلى الرئيس الأميركي يتسق تماماً مع هذا السيناريو. ولم يخفِ بولسونارو إعجابه الشديد بشخص الرئيس دونالد ترمب، الذي عصف بكل ما هو معهود من ركائز السياسات الخارجية منذ توليه السلطة، ودعا في خطاباته الانتخابية إلى الغزو البرازيلي الكولومبي المشترك ضد فنزويلا إثر إيماءة الموافقة من جانب واشنطن، تلك التصريحات التي أثارت عاصفة من الشائعات والتكهنات التي غمرت آفاق المنطقة في الآونة الأخيرة.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»