علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

الحركات «الجهادية» في الهند... رؤية أخرى

فتوى علماء مكة التلقائية والفورية، بأنه طالما تم الحفاظ على العقائد الإسلامية في الهند، فإنها تبقى دار إسلام، يدل على أن تلك المشكلة خاصة بمسلمي الهند. فهي لم تنشأ مع استعمار الفرنسيين مصر، ولا بعد أن استعمرها الإنجليز، ولم تنشأ في بلد عربي استعمره الفرنسيون أو الإنجليز أو الإيطاليون. وهذا ليس هو الشاهد الفقهي الوحيد على أن المشكلة الإسلامية في الهند كانت خاصة ولم تكن عامة.
بعد مرور ما يربو على قرن من الزمان بعام أو ببضعة أشهر على فتوى شاه عبد العزيز الدهلوي بأن الهند أصبحت دار حرب لا دار إسلام، نشر الشيخ رشيد رضا في باب (فتاوى المنار) في مجلته (المنار) في عددها الصادر في 10 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1904 تحت عنوان (أسئلة هندية)، ما يلي: «وردت هذه الأسئلة الستة من الهند على الأستاذ الإمام مفتي الإسلام في مصر، فأرسلها إلينا لنجيب عنها لكثرة الشواغل عنده، ولثقته بتحري تلميذه الصواب».
باعث الأسئلة الستة – كما أخبرنا الشيخ رشيد رضا – هو الطبيب المولوي نور الدين المفتي في بنجاب الهند. وسؤاله السادس كان يقول: أيجوز للمسلم المستخدم عند الإنجليز الحكم بالقوانين الإنجليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله؟
أشار في بداية فتواه إلى أن المسلمين المتدينين يأخذون بظاهر قوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، وأن ظاهر هذه الآية لم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، وأن أهل السنة مختلفون في تفسيرها، ثم فصّل في فتواه الحديث عن آيات الحاكمية في القرآن. وما يعنينا في هذه الفتوى هو قوله فيها: «ولا وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين مثل تقلد أعمال الحكومة، ولا سيما إذا كانت الحكومة متساهلة قريبة من العدل بين جميع الأمم والملل كالحكومة الإنجليزية، والمعروف أن قوانين هذه الدولة أقرب إلى الشريعة الإسلامية من غيرها، لأنها تفوض أكثر الأمور إلى اجتهاد القضاة، فمن كان أهلاً للقضاء في الإسلام وتولى القضاء في الهند بصحة قصد وحسن نية يتيسر له أن يخدم المسلمين خدمة جليلة. وظاهر أن ترك أمثاله من أهل العلم والغيرة للقضاء وغيره من أعمال الحكومة تأثماً عن العمل بقوانينها يضيع على المسلمين معظم مصالحهم في دينهم ودنياهم. وما نكب المسلمون في الهند ونحوها وتأخروا عن الوثنيين إلا بسبب الحرمان من أعمال الحكومة. ولنا العبرة في ذلك ما جرى عليه الأوروبيون في بلاد المسلمين، إذ يتوسلون بكل وسيلة إلى تقلد الأحكام، ومتى تقلدوها حافظوا على مصالح أبناء ملتهم وجنسهم».
هذه الفتوى هي للشيخ رشيد رضا لكنها في الوقت عينه تعبر عن موقف أستاذه الشيخ محمد عبده الديني والعملي.
إفتاء شاه عبد العزيز الدهلوي أن الهند أصبحت دار حرب لا دار إسلام بعد أن توطد نفوذ شركة الهند الشرقية الاستعماري كان له سابقة. يقول جلال السعيد الحفناوي في بحث له عنوانه (الجماعة المسلمة في الهند) عن هذه المسألة – نقلاً عن رد ولف بيترز صاحب كتاب: (الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث) : «عندما اكتسحت دولة المرهتها مناطق شاسعة من الهند الإسلامية في القرن الثامن عشر ثارت المسألة نفسها، لكن العلماء في ذلك الوقت رأوا أن الهند لم تفقد وضعها، باعتبارها دار إسلام، ولكن الاحتلال الإنجليزي للهند كان عكس الحكم المرهتي الذي لم يدخل تغييرات يعتد بها في النظام الاجتماعي للهند».
المراهتها أو المراتها أو المراهتا أو المراته - بحسب ما كتبها الرحالة ابن بطوطة –، قوم ذوو بأس شديد، قامت لهم دولة في جنوب الهند، وهم يعتنقون الديانة البرهمية أو الهندوسية، وهم مصنفون عند أهل هذه الديانة ضمن الطبقات الدنيا. وقد برزت قوتهم السياسية والعسكرية في القرن السابع عشر.
في ظل فتوى شاه عبد العزيز الدهلوي ترددت في مطلع القرن التاسع دعوات للجهاد والهجرة والجزية (فرض نظام الجزية السلطان أوزنك زيب بعد أن أبطل هذا النظام أسلافه السلاطين) وللولاء والبراء وترددت آيات الحاكمية في القرآن رداً على القوانين الوضعية التي طبقها الإنجليز.
وترتب على الفتوى نشوء وانطلاق حركات دينية «جهادية» تعتقد بأنه حانت ساعة الجهاد. وكان من أبرزها الحركة التي قادها أحمد بن عرفان الباريلي. ومع أن فتوى شيخه شاه عبد العزيز الدهلوي تدعو إلى جهاد الإنجليز، إلا أنه بدأ جهاده ضد السيخ في إقليم البنجاب، وبعد تحقيقه بعض الانتصارات عليهم، أقام لفترة قصيرة حكومة إسلامية. وقد قتله السيخ وقتلوا صنوه ورفيقه إسماعيل الدهلوي ابن أخت الشيخ شاه عبد العزيز الدهلوي وحفيد الشيخ شاه وولي الدين الدهلوي في معركة في وادي بالاكوت عام 1831. وهزيمته في هذه المعركة كانت بسبب خيانة بعض جنده المسلمين. تحول أتباعه من محاربة السيخ إلى محاربة الإنجليز عام 1849. واستمروا في مناوشة الإنجليز في حروب جهادية إلى عام 1872.
قد يقول قائل إن هذه الحركات كان يسمى أهلها الوهابيين. لأنها تأثرت بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية. ومحمد بن عبد الوهاب عربي ودعوته نشأت وانطلقت من بقعة عربية. وهذا التأثر ثابت عند المستشرقين وعند الباحثين الإسلاميين والعلمانيين على مختلف تياراتهم وجنسياتهم وقومياتهم.
أقول: إن القول بتأثر تلك الحركات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية هي – فعلاً – مسألة انعقد عليها الإجماع. وفي حدود قراءتي لم أجد أحداً نفاها سوى باحثين، أحدهما إسلامي هندي أصولي، هو أبو الحسن الندوي، والآخر مسلم باكستاني ليبرالي، وهو مظهر الدين صديقي، لكن الأول اكتفى بالنفي من دون إبداء أي سبب بينما الثاني ذكر سبباً واحداً.
أنا مثلهما أنفي هذه المسألة، وسأبين لماذا أنفيها.
إن هذه الدعوى التي هي في أصلها دعوى أطلقتها اتجاهات دينية إسلامية هندية محلية متنافرة مع تلك الحركات ثم تبنتها الإدارة الحكومية الإنجليزية وروجتها، تقوم على شيء من المتشابهات بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية ودعوات تلك الحركات الدينية السلفية، وعلى أن صاحب كل حركة من تلك الحركات حج في تلك السنة أو جاور الحرمين الشريفين لسنين عدداً، ثم عاد إلى الهند، وباشر إطلاق دعوته.
الرد: هو أن السلفية في الهند نشأت وتم إحياؤها قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وفي الهند ظهر مصلح ديني قبل ظهور المصلح الديني محمد بن عبد الوهاب. والهند في القرون المتأخرة كانت هي موئل العلوم الدينية ومخزنها وليس العالم العربي. وكانت الهند تمورُ بصراعات وانزياحات ومبادلات وتجاذبات دينية ومذهبية فيما يتعدى الديانة الإسلامية والديانة الهندوسية إلى ديانات أخرى.
ولنبدأ بأحمد بن عرفان الباريلي.
أحمد بن عرفان هو تلميذ شاه عبد العزيز الدهلوي، أرسله شيخه إلى ميرخان مؤسس إمارة تونك الإسلامية ليجاهد في جيشه عام 1810. وقاتل في جيشه ست سنوات. وقد تركه بعد أن صالح الإنجليز. أي أنه قد شرع في الجهاد قبل أن يحج إلى مكة عام 1821. وقد حج لسببين أحدهما أنه قبل أن يقود عملية الجهاد أراد أن يكمل دينه من ناحية العبادات.
يقول مظهر الدين صديقي: «ومع أنه رحل إلى مكة لم يتصل ـــ على ما يظهر ــ بالوهابيين هناك إذ كان دمهم قد أبيح آنذاك وحلّت عليهم لعنة القانون». وهو هنا يشير إلى أنه في التاريخ الذي حج فيه كان الحجاز انتزع محمد علي باشا سلطته من الدولة السعودية الأولى بعد معارك شرسة وطويلة، وأصبح تحت السيطرة المصرية والعثمانية. ويقصد بلعنة القانون قانون محمد باشا وقانون العثمانيين. وأضيف إلى إلى ما ذكره أنه في ذلك التاريخ أن الدولة السعودية الأولى كانت قد أسقطت في قصبتها الرئيسية على يد جيش محمد علي باشا بعد حصار طويل لبلدة الدرعية عام 1918م.
وقد لا يدري من يقول بهذه المسألة أن أحمد بن عرفان الباريلي حينما حج كان يصحبه من أتباعه وأتباع دعوته سبعمائة رجل، فكيف لواحد بهذه الصفة وهذه الهيئة، أن يتاح له أو يمكن له أن يتأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن طريق ــ نقول هذا فرضاً ــ شيخ يدرِّس في الحرم المكي أو في الحرم المدني هو من أنصارها. ثم هو أتى إلى مكة حاجاً. وإضافة إلى هذا هو أتى إليها ليبحث عن أنصار ومؤازرين لدعوته التي تقوم على الجهاد بين أهل الحرمين الشريفين. ولم يأت بمفرده للحج لطلب العلم والاهتداء إلى طريقة أو مسلك ديني سني، يطمئن إليه قلبه ويقتنع به عقله.
وما ورد في صدر هذه المحاججة يحاجج به من يحكون عن تأثر الملقب بيتومير (اسمه ميرنثار علي) الذي هو أحد قواد حركات الجهاد الإسلامي، استناداً إلى أنه قد حج! فهو قد حج عام 1923. وللحديث بقية.