حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

التقنية والسيادة

لعل من أهم وأبرز «إنجازات» التقنية الحديثة التسريع في تحقيق مفهوم القرية الواحدة بشكل واضح جلي.
المعلومة تصل بسرعة الضوء، والخبر أصبح عاماً وشعبياً، بعد أن كان نخبوياً. الخيارات أصبح لا حد ولا سقف لها، حلول لمعظم التحديات، وإجابات لأكثر الأسئلة، كل هذا عن طريق تقنية تتبدل بشكل مذهل سريع. ولكن هذا التطور التقني المذهل، وتمكين الفرد من تحقيق «خياراته»، يأتي على حساب «سيادة» الدول قطعاً.
فاليوم، نظرياً وعملياً، من الممكن الدخول في فصول دراسية «افتراضية ولكنها واقعية» تجمع في الفضاء الإلكتروني طلبة من البرازيل والعراق وأوغندا وكمبوديا وكندا، وغيرها من دول العالم، يحصلون على شهادة متكاملة، متجاوزين «تشريعات» وزارة التعليم في بلادهم، أو يتم «تشخيص» عن بعد بالطب الإلكتروني، عن طريق طبيب مقيم في بلد آخر، ويصرف دواء يتم شراؤه عن طريق صيدلية إلكترونية تشحن الدواء من دولة ثالثة؛ مرة أخرى يتم التجاوز للمرجعية «الصحية» في البلد الذي يسكن فيه المريض.
والآن، هناك المحاكم التي تحصل عن بعد، بالطريق الفضائي الإلكتروني؛ سيكون من الممكن أن يكون القاضي في بلد، والمدعي في بلد، والمحامي في بلد ثالث، في مشهد تنتصر فيه التقنية على حساب (وعلى فكرة) السيادة التقليدية الدارجة. اليوم، يزداد نفوذ شركة مثل «أمازون» العملاقة للتسوق الإلكتروني، فتقضي بالتدريج على قطاعات التجزئة في معظم دول العالم، وتؤثر عليها سلباً على أقل تقدير، ويجد المحامون والمشرعون أزمة عميقة وحقيقية جداً في كيفية التعامل مع هذه المعضلة لأن من الناحية النظرية، «أمازون» شركة افتراضية لا تدخل ضمن المنظومة الخاضعة للقانون السيادي في كل دولة يصاب القطاع الخاص بالتجزئة فيها بالضرر الشديد. إنها مشاهد ودلائل على تأثير التقنية المتزايد على مفهوم السيادة والقانون الحاكم في كل دولة. ولعل أبرز مآثر التقنية في المجتمعات عموماً هو القضاء التدريجي على فكرة التعود على «المألوف»، ويصبح بالتالي التغيير هو المألوف، وهي فكرة ضد الفطرة الإنسانية، مما يعني أن الفوضى هي البديل.
ولكن هناك من سيستفيد من هذا الوضع المتغير ولا شك. وفي عام 2009، أصدر عراب الإدارة الحديثة توم بيترز كتاباً عبقرياً عن نظريته المستقبلية، بعنوان «الازدهار على الفوضى»، قال فيه إن هناك قوى فوضوية ستكون نتاج التغيرات العنيفة في الإدارة والاقتصاد والتقنية ستؤذي الكثيرين، وتجبرهم على التغيير، ولكن الأذكياء سيستفيدون منها بشكل استثنائي، ونحن اليوم نعيش بداياتها: التقنية الحديثة تتوحش، وأولى ضحاياها سيادة الدول.
حتى الإعلام السيادي لم يعد قادراً على ملاحقة، ولا منافسة، ولا التأثير على الإعلام الجديد، وأن يكون له الفعالية ذاتها والحضور، ولا وزارات الإعلام والجهات التشريعية قادرة على ممارسة الدور والمهام السيادية عليها وبحقها.