عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

عندما تختطف الأقلية عالم الأغلبية

ظواهر قبيحة كاللاتسامح والتعطّش للسيطرة على الآخر ليست حكراً على بلد أو ثقافة، بل بدأت تسود العالم.
في أسبوع واحد نشهد تغلُّب الغوغائية على منطق العقل الإنساني؛ من مصر إلى بريطانيا، مروراً بباكستان.
بعض الظواهر اتخذ طابع العنف الإرهابي ضد طائفة أخرى، كحادثة مصر، وبعضها جماهير غوغاء تتحرك بغريزة الانتقام، وبعضها، وهو الأخطر، غير مباشر، في محاولة السيطرة على التعبير وطريقة تفكير الناس.
في باكستان، «الجماهير» ترفض توصّل المحكمة للعدالة، بكشفها تلفيقَ نساء تهمةً، أخلاقية اجتماعية في الأساس، لجارة على خلاف حول المياه. سيسجل التاريخ كيف أدَّت «خناقة نسوان» إلى اضطراب على مستوى قومي، بتحريك متطرفين الشارعَ لرفض العدالة التي هي مطلب الجماهير عالمياً.
في الأسبوع نفسه، تجد حرية الصحافة والتعبير في خطر، في مهد حرية الفكر ومسقط رأس تعبير «السلطة الرابعة». المفارقة أن الخطر لا يأتي من القوى التقليدية المعادية للحرية، كالفاشية والنازية والشيوعية وديكتاتورية أوتوقراطية حكم الفرد، بل من التيارات الليبرالية والحركات المطالبة بحقوق الأقليات والحركة النسائية.
لم يعد خنق حرية التعبير أو المطالَبة برقابة قانونية، مقتصراً على الوسائل الصحافية العامة، وسائل التواصل الاجتماعي، بل صنع سابقة لفرض الرقابة القانونية (رغم مرور 55 عاماً على إلغائها من المسرح والسينما) على المراسلات والبريد الإلكترونيّ. وربما نشهد قريباً «بوليس الفكر»، كما في رواية جورج أورويل «1984»، وروايات الخيال العلمي، يعتقل الكتّاب والمبدعين والصحافيين لفكرة في الدماغ لم ترَ النور عبر وسيلة تعبير بعد.
ما يثير قلق الصحافيين والمتمسكين بحريتها هو استجابة مجموعة محلات «وايتروز» للأطعمة لاحتجاجات غوغائية من أقلية بسيطة، بإقالتها ويليام سيتويل، رئيس تحرير مجلة «الغذاء» التي تصدرها، وهو صحافي ممتاز ذو خبرة واسعة وطويلة في مجال المطاعم والمشروبات والأغذية.
الضجة أثارتها أقلية، ضمن النباتيين، وهم بدورهم أقلية في المجتمع البريطاني، بسبب نكتة، قد لا يستسيغها البعض، لكنها نكتة، في رسالة إلكترونية خاصة لا عبر منبر عام.
ارتفع عدد النباتيين حول العالم، وفي بريطانيا خاصة، بعد أن نجحت أقلية أخرى (من المنتفعين مادياً واقتصادياً) في إقناع الناس (دون أدلة علمية قاطعة) بأن تربية الماشية والدواجن ورعي الأغنام تسهِم في التغير المناخي. يشكل النباتيون، بالإحصائية الرسمية للتغذية وتصنيف الطعام، ثلاثة في المائة من سكان بريطانيا (أو مليوناً و900 ألف من 66 مليوناً ونصف المليون)، بينما تُقدِّر إحصائيات غير رسمية لجمعيات النباتيين وشركات إنتاج أغذية النباتيين الجاهزة، عددهم بسبعة في المائة. وبالطبع لا يزالون أقلّية.
ضمن هذه الأقلية يوجد «الفيجانيون» (vegans)، ولا مقابل بالعربية لها، وهم نباتيون لا يتناولون أي منتجات حيوانية. وبينما يدخل ضمن النباتيين (وابنتي أحدهم) مَن يأكلون الأسماك ومنتجات الألبان والبيض، فإن الفيجانيين لا يتناولون اللبن والحليب ومنتجاته أو البيض، أو حتى الأطعمة التي يدخل فيها منتجات حيوانية بشكل غير مباشر (المتطرفون منهم لا يرتدون الصوف والمنتجات الجلدية، كالأحذية).
عدد الفيجانيين في الإحصاء الرسمي (لعام 2016) كان 150 ألفاً (أو اثنين من ألف في المائة من البريطانيين) وحسب إحصائيات منظماتهم ونشراتهم الرسمية (عام 2018) يصل عددهم إلى 542 ألفاً (ثمانية من الألف في المائة من سكان بريطانيا). لكنَّ أصواتهم عالية وضوضاءها كبيرة، فأكثريتهم من أبناء الطبقات المتميزة والشرائح العليا من الطبقات الوسطى الميسورين ذوي القوى الشرائية العالية (يحتاج الفيجانيون إلى نظام غذائي مرتفع الثمن، وفيتامينات لتعويض حاجات الجسم الأساسية من الكالسيوم والفسفور والفيتامينات الطبيعية من منتجات الدواجن والأسماك واللحوم).
وضعهم الطبقي يجعلهم قوة مؤثرة في الرأي العام، ومحيطهم هو البيئة، وحركة الخضر، ومقاومة التغيير المناخي. الحركة في أوروبا اليوم بمثابة عقيدة جديدة تقدِّسها الطبقات الوسطى في مجتمع تراجع فيه الإيمان والتديُّن بالمسيحية، التي كانت المرجع الأخلاقي والروحي للأغلبية (لا توجد خانة الديانة في الأوراق الرسمية، لكن 55 في المائة بآخر إحصاء قالوا إنه لا ديانة لهم، وإذا استثنينا الأديان الأخرى، تجد أن المؤمنين بالديانة الرسمية، وهي الكنيسة الإنجليكية، 17 في المائة فقط من السكان) لتصبح آيديولوجية التغير المناخي والبيئة ومبدأ الخضر العقيدة المقدسة الجديدة التي «يؤمن» بها اليوم 93 في المائة من السكان.
أمام هذه الخلفية من قدرة النباتيين والفيجانيين على التأثير في مؤسسات صناعة الرأي العام، جاء حظ سيتويل العاثر، بسبب تصرُّف زميلة صحافية خرقت أهم مواثيق المهنة؛ اتفاق شرف «الجنتلمان» غير المكتوب، بين كل الصحافيين: إبقاء جدار فاصل منيع بين الخاص والعام، وألا يصبح الصحافي هو الخبر، والتقرير بحياد بلا انتماء آيديولوجي.
صحافية مغمورة، سيلين ويلسون، بعثت برسالة إلكترونية إلى سيتويل تقترح أن تكتب له موضوعاً عن وصفات غذائية وأطباق «لا تضر بالبيئة، خصوصاً أن الحركة الفيجانية مستمرّة في النمو وتنطلق كصاروخ يصل إلى عنان السماء».
رد سيتويل على الرسالة بعد عشر دقائق بنكتة ساخرة حول نِفاق الحركة الفيجانية قائلاً: «فلنكتب سلسلة مواضيع عن إبادتهم واحداً تلو الآخر، وابتكار طرق استجواب لكشف نفاقهم، بإجبارهم على تناول اللحوم».
خلفية النكتة أن سيتويل قرأ رسالة مزارع في مجلة اتحاد المزارعين عن نفاق الفيجانيين، بقوله: «هل يعي الفيجانيون عدد مخلوقات الله التي تهلك بتجهيز هكتار واحد للزراع، من زواحف، وطيور، وقوارض، وحيوانات طبيعية، ناهيك بقطع الأشجار، والشجرة نظام بيئي متكامل ومسكن لطيور وحيوانات وحشرات؟».
الصحافية ويلسون انتهكت أخلاق المهنة والأخلاق العامة بنشر مقتطفات خارج السياق من رسالة سيتويل الخاصة، على وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت وراءها عاصفة، قد تجعل زائراً من كوكب آخر يعتقد أن الفيجانيين هم أغلبية السكان، وأن سيتويل قتل أحدهم بالفعل.
النكتة قد تكون مزاحاً ثقيلاً، لكن عندما يقول أحدهم: «يخرب بيتك يا شيخ»، أو «روح ربنا يأخذك»، أو «إن شالله يطسّك تروماي»؛ فهي مزحة وليست دمار داره أو موته تحت عجلات الترام.
إدارة «وايتروز» اضطرت، تحت ضغط الفيجانيين، إلى إقالته. الصحافيون والمدافعون عن حرية التعبير في قلق تكرِّر السابقة.
لا فارق بين غوغاء يحرقون أماكن عبادة الغير، وإرهابيين يهاجمون دور نشر ومكاتب مجلات ويرفضون حكم المحكمة (في بلدان تسمى عالماً ثالثاً على طريق التحضر)، وأقلية تريد فرض الرقابة على الأغلبية في بلدان عالم أول؛ مهد التحضر.