محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

يكتم الصوت ويضحك

كان الطبيب الشاب الذي يُعِد لدرجة الاختصاص في الأمراض النفسية والعصبية في تلك المدينة الأوروبية الشرقية، كثيراً ما يحب التمشي في قلب المدينة الذي يشقه شارع كبير ذو أبنية عملاقة ثقيلة مكسوة بالجرانيت، يُقال إن الأسرى الألمان بعد هزيمة بلدهم في الحرب الغربية الثانية قد سُخِّروا لبنائها، تكفيراً عن بعض ما سببه الاجتياح النازي من دمار وموت في هذه المدينة.
وعندما كان الطبيب الشاب يتعب من المشي، ويدوِّخه الجمال في قلب المدينة الحديقة الزاخرة بالجميلات العطوفات، كان يتوجه نحو دار سينما صغيرة بطرف الشارع الكبير، تخصصت في عرض الأفلام التسجيلية، يضع في عين حصالة البوابة قطعة العملة الزهيدة، ويدخل ليشاهد فيلماً مدته نصف ساعة؛ يستريح من المشي، ويخرج. إلا المرة التي دخل فيها هذه السينما لا ليستريح، ولا ليشاهد فيلماً، بل لأنه سمع ضحكاً صاخباً يتسلل من قاعة السينما التي كانت صغيرة وقريبة من المدخل المطل على الشارع.
أسرع يومها بالدخول، ووجد فيلماً من أفلام الحرب العالمية الثانية يُعرض صامتاً، فقد تعطل الصوت واستمر الشريط يظهر واضحاً على الشاشة. وكانت محاولات إصلاح الصوت مستمرة، لكن كلما عاد الصوت تتحول القهقهات إلى صراخ يطالب بالعودة إلى كتم الصوت، وكان مشغل آلة العرض يستجيب للصراخ. وسرعان ما شارك صاحبنا جوقة الضحك العارم مع مشاهدي الفيلم المعروض بلا صوت، فقد كانت المَشاهد، رغم أجواء الفيلم الكابية والمقبضة، تثير الضحك حقاً، فانخرط تلقائياً في صخب الضحك.
كان الفيلم قديماً، بالأبيض والأسود، ويتناول تطورات الحرب العالمية الثانية، مُركِّزا على ظهور شخصيات فاعلة فيها، أبرزها من المحور: هتلر وموسيليني وكونويا رئيس وزراء اليابان. ومن الحلفاء: تشرشل وروزفلت وستالين. وكان هؤلاء الجبابرة عند كتم الصوت يبدون هزليين تماماً، خصوصاً أن الأفلام قديمة، واللقطات تتقافز، وتقفز معها أيادي وحواجب وشِفاه هؤلاء الجبابرة. وبحكم المهنة، وعبر الضحك، أو رغمه، وجد الطبيب النفسي نفسَه يُشخِّص: «هتلر نرجسي سيكوباتي. موسيليني هوسي بارانويدي. كونويا وسواسي اكتئابي. ستالين مركب نقص وتعويض خيلائي. روزفلت عدواني كتوم. تشرشل اضطراب ثنائي القطبية ونهم هوسي»!
فرقة عاهات نفسية كاملة كانت تدير محرقة كوكب الأرض العظمى في ذلك الوقت، لكنهم على الشاشة راحوا يثيرون الضحك ما إن تُكتَم أصواتهم. مفارقة تستدعيها ذاكرة ذلك الطبيب الآن، وهو يعثر على ما يشابهها في أحد الكتب العلمية الأدبية البديعة لأستاذ طب الأعصاب الكاتب الأميركي الشهير الراحل «أوليفر ساكس»، فقد أثارت دهشة ساكس عاصفة من الضحك تنطلق من عنبر المصابين بالحُبسة (بضم الحاء) في أثناء عرض تلفزيون العنبر لخطاب رئيس أميركي راحل، لم يحدده ساكس، وإن كان قد وصفه بأنه: «فاتن، عجوز، منمق اللغة، هستريائي التمثيل، عاطفيته جذابة».
كان معظم مرضى العنبر يهتزون من الضحك لمشاهدة وسماع ذلك الرئيس يخطب، إلا من قلة بدا بعضها مرتبكاً، والبعض الآخر غاضباً، فيما ظهر الخوف على وجه واحد أو اثنين منهم، وقد كانوا جميعاً يشتركون في أنهم مصابين باضطرابات مختلفة في الفص الصدغي الأيسر من المخ، مما جعلهم يفقدون إدراك معاني الكلمات، وإن كانوا يكتسبون عِوضاً عن هذا الفقد حساسية فائقة لإدراك دلالات النبرات والإيماءات والتكشيرات والابتسامات والتلويحات، ويعرفون ما الصادق منها وما الكاذب، المتنافر أو المتسق.
لم يكونوا ينخدعون بالكلام لأنهم يستقبلون الكلام كما لو كان صمتاً. ووراء هذا الصمت كانوا يكتشفون هزلية احتيالات مَنْ أطلق من صدورهم عاصفة الضحك، تلك العاصفة التي شدَّت مثيلتها ذلك الطبيب يوم كان شاباً، وهو الآن - بينما يضيق بطوفان الكذب والاحتيالات والخداع الذي تصبه على رأسه ورأس الملايين مَكْلَمات شاشات التلفزيونات، والحاسبات، والأجهزة اللوحية، والهواتف النقالة، ومن كل أصقاع هذا العالم المُتعَب والمُتعِب، والمليء بالأدعياء الكذبة والدعاة الأكذب - صار يكتم الصوت، فيضحك.. ضحكاً كالبكا.