حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

السياسة في أزمة بيئية مقبلة

أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب صوغ رفضه مقولات التغيّر المناخي بعبارات مرنة في أحاديث صحافية في الأيام القليلة الماضية، فمع اعترافه بارتفاع درجات الحرارة العالمية، توقع ألا يطرأ تبدل في أسلوب الحياة في العالم، وأن تعود الأمور إلى نصابها السابق، مشدداً على امتناعه عن دفع أموال طائلة لمكافحة الظاهرة العالمية أو خسارة الأميركيين ملايين فرص العمل. وكرر اتهامه علماء المناخ بتبني جدول أعمال سياسي ضد إدارته.
تبدو الأجواء هذه كأنها تنتمي إلى عالم آخر غير العالم الذي يسيطر عليه ويسيّره الخوف من جهة؛ واللامبالاة من الجهة المقابلة.
وترمب الذي زار الأماكن التي اجتاحها الإعصار «مايكل» في الولايات الجنوبية، نفى أن تكون العواصف والأعاصير تزداد سوءاً. هذه التصريحات تتناقض رأساً مع مضمون التقرير الذي أصدرته قبل أسبوعين من مدينة أنتشيون الكورية الجنوبية «اللجنة الحكومية المشتركة حول التغيّر المناخي» التابعة للأمم المتحدة، والذي حمل أخباراً سيئة لكل المهتمين بمستقبل كوكب الأرض: سيدخل العالم أزمة بيئية حادة بحلول سنة 2040؛ حيث سترتفع الحرارة 1.5 درجة مئوية عن معدلات ما قبل العصر الصناعي. التوقعات السابقة كانت تتحدث عن موعد أبعد وعن درجات حرارة أعلى، بيد أن التقرير الذي شارك في وضعه 91 عالماً من 40 بلداً حذر من أن الوقت لم يعد كافياً لوقف عجلة التلوث وانبعاث الغازات المساهمة في ظاهرة الاحتباس الحراري، ذلك أن وقف المسار الحالي والاتجاه اتجاهاً معاكساً يأخذ في الاعتبار المصلحة العامة للبشرية على المديين المتوسط والبعيد، لم يعد في المتناول.
التقدير المتشائم هذا يعيد الكلام إلى السياق السياسي. صعود النزعات الإقليمية والمحلية بعدما انحصرت فوائد العولمة في فئة ضئيلة من السكان، وتحول «الذات» إلى المسألة الأولى والأخيرة التي تستحق اهتمام السياسيين والتي يملأون بها فضاء الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، بالتزامن مع الأزمة العميقة التي تعيشها الليبرالية الديمقراطية وتراجعها أمام موجات الهجوم الشعبوي من اليمين ومن اليسار... كل ذلك يضع قضية البيئة في مرتبة ثانوية.
لكن هذا التراجع ليس إلا دخاناً مضللاً. فعالم اليوم يزداد ترابطاً وتداخلاً وتعقيداً حتى لو أنكر أصحاب الآراء التبسيطية الحقيقة هذه. ولا مفر من الاعتراف ذات يوم بأن الكارثة البيئية المقبلة ستكون العنصر المحدد لسياسات الدول بسبب انعكاساتها الهائلة على الزراعة والاقتصاد ككل وعلى حركة السكان الذين سيضطرون إلى الهجرة من المناطق المنكوبة، مما سيرفع من درجات التوتر بين الجماعات والدول والهيئات الدولية.
في العالم العربي شهدنا بدايات مقلقة في دارفور، وفي مثول هاجس الشح المائي في العراق ومصر، والتلوث في لبنان، والتصحر في شمال أفريقيا، ناهيك بالاكتظاظ السكاني في المراكز المدنية، الذي تسببه قلة المحاصيل وتمدد الصحراء وتضاؤل المتساقطات المائية. كل هذه عوامل تزيد من التوتر الاجتماعي والسياسي وتحمل الحكومات، كما معارضيها، إلى مواقف أكثر جذرية وحدّة ليس من المغامرة توقع نهاياتها في دورة لا تنتهي من الحروب الأهلية والانقلابات والصدامات الواسعة والعنيفة. الظواهر التي ستنجم عن الكارثة البيئية في المناطق الأكثر حساسية من العالم، ومنها منطقتنا العربية، ستلقي بتبعات كبيرة على دول الشمال التي استعدت لمواجهة اللاجئين البيئيين المقبلين والذين سيلحقون بلاجئي الحروب والصراعات السياسية، برفع أسوار الحكومات الشعبوية والعنصرية. التجربة الإيطالية في التعامل مع سفن اللاجئين جديرة بالمتابعة كعينة لما سيكون مرشحاً للتعميم في أوروبا في الأعوام المقبلة.
من المؤسف أن المآلات التي انتهت إليها الثورات العربية ضيقت حيز الحوار الضروري بين أطراف المجتمعات المختلفة لإيجاد تصورات مستقبلية لمعضلات بدأت نذرها تقرع أبواب الحاضر. وغني عن البيان أن مشكلات على هذا القدر من الاتساع تحتاج إلى عمل منظم يساهم فيه أصحاب رؤى قد تكون متناقضة. والأدبيات التي تتناول العلاقة بين البيئة والسياسة في منطقتنا ما زالت قليلة العدد، وتتوجه إلى اختصاصيين وخبراء، وتقوم أساساً على أعمال مترجمة أو تستند بياناتها إلى أرقام وإحصاءات أجنبية (تجدر الإشارة هنا إلى كتب «مدار الفوضى: تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف» لكريستيان بارينتي، و«وجه غايا المتلاشي: تحذير أخير» لجيمس لفلوك، و«الانفجار السكاني والاحتباس الحراري» لعبد المنعم مصطفى المقمر. والكتب الثلاثة صادرة ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية.
لا تفسير لسلوك البشرية اليوم إلا التمسك بسلوك انتحاري واعٍ يقدم المصلحة الآنية المباشرة على تلك العامة وبعيدة المدى. والصراع الذي اعتقد الإنسان أنه انتصر فيه للسيطرة على الطبيعة من خلال استنزافها وتدميرها والقضاء على توازنها الداخلي، يعود من حيث لم يتوقع البشر المغرورون والمحكومون بنقصهم وبجهلهم وطمعهم. هذه المعركة، وإن بدت اليوم هامشية ولا ترقى إلى ما يستحق اهتماماً ومتابعة يومييْن، ستحدد مصير العالم لقرون مقبلة، وسترسم مصير كوكب الأرض الذي أساء بنو جنسنا إليه أكثر من طاقته على التحمل.