عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

المتاجرة باختفاء جمال خاشقجي

المواطن السعودي، جمال خاشقجي، أين هو؟ ومن المسؤول عن اختفائه؟ وأين وكيف اختفى؟ هذه أسئلة مهمةٌ يطرحها الجميع، وهي أسئلة مشروعةٌ تماماً، والإجابة عن بعضها واضحة، وبعضها الآخر لم يزل صعباً، ولكن يمكن التعليق عليه.
بدايةً، جمال خاشقجي مواطن سعودي، خرج من السعودية واختار خطاً سياسياً ليس متوافقاً معها، ولكن ظلّت له علاقات مع بعض المسؤولين السعوديين، كما صرّح بذلك الأمير خالد بن سلمان سفير السعودية في واشنطن، الذي رسم خطوطاً واضحةً للأزمة من بدايتها، وأكد أن خاشقجي كان يزور السفارة السعودية في واشنطن إبان إقامته هناك، وهو لا يُعدّ معارضاً سياسياً؛ والسعودية تدافع عنه كأي مواطنٍ سعودي وتفتش عن مصيره.
خاشقجي كشخصٍ، لمن لا يعرفه، صحافي فقد رئاسة التحرير مرتين، وأدار فضائية إخبارية أُغلِقت بعد ساعاتٍ قليلةٍ، وكان ذلك بسبب عدم إدراك للواقع ومعطياته، وفقدان لوعي مهمٍ بحساسيات المجتمعات. وأثناء «الربيع العربي» اعتقد أنه سيكون وسيطاً بين السعودية ومصر الإخوانية، ولم ينجح، وبعد فشل «الربيع العربي» بشكل كاملٍ كان ضمن أقلية ضئيلةٍ أصرت على نجاحه.
الزمان والمكان معروفان، والشخص معروفٌ، وهذه إجابات واضحةٌ، وتبقى أسئلة: ماذا حدث بالتحديد؟ وكيف حدث؟ ومَن المسؤول؟ وهذه الأسئلة الثلاثة ليست لها أي إجابة رسمية حتى الآن، ولكن يمكن البحث في الظروف المحيطة بها، للوعي بالمشهد العام.
أما المسؤولية الأمنية فهي مسؤولية الدولة التركية، لأن الحدث جرى على أراضيها، وهي أرض شهدت، على مدى السنوات الأخيرة، تحركاتٍ مريبةً لكل أجهزة الاستخبارات الدولية ولأنواع متعددةٍ من «المافيا» المحلية والدولية، وهناك عمليات اغتيال وتصفياتٍ جَرَتْ هناك ولم تحلّ منذ سنواتٍ، بالإضافة لتحركاتٍ واسعةٍ للتنظيمات الإرهابية من «داعش» إلى «النصرة»، وتحركات «لوجيستية» كانت تتم هناك على نطاق واسعٍ ومنظمٍ، وهذا مهمٌ في شرح المناخ السائد زمانياً ومكانياً.
الدولة القطرية تعمل منذ عقدين على معاداة المملكة العربية السعودية ودول الخليج والدول العربية، وهي حليفٌ معتمدٌ لدعم الإرهاب بشقيه السنّي والشيعي، وقد قلّمت السعودية وحلفاؤها كل أدواتها الإرهابية عبر تصنيف جماعة «الإخوان المسلمين» جماعةً إرهابيةً وإصدار قوائم مطلوبين من المسؤولين القطريين الداعمين المباشرين للإرهاب، وصولاً إلى القرار التاريخي، وهو قرار مقاطعة الدول الأربع لدولة قطر قبل عامٍ ونصف العام تقريباً.
خسرت قطر كثيراً من قوَّتها بعد المقاطعة، ولكنها ظلّت تنحت في الصخر وتحاول المستحيل لتغيير رأي السعودية وحلفائها، ولكنها لم تنجح، لا في الداخل السعودي والخليجي ولا في اليمن، حيث الحرب العادلة لطرد أذيال إيران منها، وهي تخسر في كل مكانٍ سعت للعبث فيه من قبل بالتحالف مع الإرهاب؛ خسرت في مصر والبحرين، وفي السعودية والإمارات، وخسائرها تتصاعد في سوريا وليبيا والعراق ولبنان، ولم يجدِها نفعاً الارتماء في حضن المشروعين المعاديين للعرب في المنطقة؛ المشروع الإيراني والمشروع الأصولي.
مع سياسة «العناد الاستراتيجي» التي اتبعتها قطر، فإن المنطق يقول إنها فكّرت وقدّرت ورجعت إلى قوّتها الأساسية لنشر الخراب والفوضى التي نجحت فيها جزئياً أيام ما كان يُعرف بـ«الربيع العربي»، وهي «القوة الإعلامية»، ولا أقصد بذلك منظوماتها الإعلامية الموجهة للشعوب العربية كقناة «الجزيرة» وتوابعها، بل أقصد استثماراتها الضخمة في وسائل الإعلام الغربية الكبرى، وركوبها لكثير من «اليسار» أو «اليسار الليبرالي» في الغرب، مؤسساتٍ وكتاباً ومشرّعين وساسةً، والمعادين أساساً للدول العربية، وعلى رأسها السعودية وحلفاؤها، وبالتالي: هل نجحت في صنع قضية رأي عامٍ دولي معادٍ للسعودية انطلاقاً من هذه القضية؟ والجواب يحمل عدداً من الأسئلة.
أول هذه الأسئلة، هو كيف علمت قطر - وحدها - بأن شيئاً ما قد حدث في المكان والزمان المحددين؟ وكيف تهافت مذيعوها ومشاهيرها في غضون الساعات الأولى على روايات وقصص تفصيلية عن خطفٍ واغتيالٍ وتعذيبٍ وتقطيعٍ وكأنهم شهود عيانٍ؟ وهو أمرٌ يثير الريبة دون شكٍ، وكيف استطاعت تحريك وكالاتٍ عالميةٍ وصحفٍ دوليةٍ مثل «رويترز» و«نيويورك تايمز» على سبيل المثال لتعزيز قصصها المتخيَّلة والمفصلة دون أي مصدرٍ موثوقٍ؟ هذا دليلٌ واضحٌ على اختراقاتٍ مهمةٍ لتلك الوسائل الإعلامية، وقد اعتذرت «نيويورك تايمز» لاحقاً، وحذفت بعض تغريداتها، ربما خوفاً من المحاكمات.
السؤال الثالث هو سؤال مؤلمٌ، وهو: كيف يمكن لدولٍ كبرى مثل السعودية وحلفائها الكبار مثل الإمارات التأثير في المشهد الإعلامي الغربي، حمايةً للمشروعات التنموية والتنويرية الضخمة التي يبشرون بنماذجها الناجحة في المنطقة والعالم؟ لأن الواضح اليوم هو أن ترك هذه المساحة فارغةً إلا من الاستثمار القطري، أمرٌ بالغ الضرر، وهو ما يجب استدراكه ومراجعته، وليس أنجع من الفراغ لخلق الفوضى وبناء القضايا ضد الخصوم، مع الاعتراف بأن التأخر التركي شارك في صنع الفراغ في هذا الحدث.
ولكن ونحن في سياق الأسئلة عن هذه الحادثة تحديداً، هل نجحت قطر في مبتغاها بتحميل السعودية كل شرور الحادثة؟ الجواب هو قطعاً لا... لم ولن تنجح، ولكنها خلقت مزيداً من البغضاء والشحناء لأدوارها التخريبية لدى جميع الشعوب العربية، وعلم الجميع حجم الحقد والمكر والخيانة التي هي مستعدة لها ومستمرةٌ فيها وماضيةٌ في سبيلها.
غيّرت السعودية الجديدة كثيراً من قواعد اللعبة السياسية في المنطقة والعالم، وهو تغيير يقلق كثيراً من الأطراف إقليمياً ودولياً، ومع دعمها المستمر لاستقرار الدول في المنطقة ورفضها الشرس لاستقرار الفوضى الذي يدعمه المحور الإيراني والمحور الأصولي لدرجة دخول الحرب العسكرية، إلا أنها أظهرت استخداماً غير مسبوقٍ لقوّتها في عدد من الأزمات؛ الأزمة مع السويد، التي اعتذرت عنها السويد، ومع ألمانيا، وأسفت ألمانيا، ومع كندا، وستعتذر كندا، ومع قطر، وستخضع قطر، وهذه التغيرات الكبيرة والسريعة أربكت الكثيرين، خصوصاً الخصوم في المنطقة.
أخيراً، نتمنى نهاية إيجابية لأزمة خاشقجي كإنسان، وفريق العمل المشترك التركي - السعودي في القضية يدفعها بالاتجاه الصحيح.

[email protected]