فقد أدب التوثيق في الثقافة العربية الحديثة مؤرخا وباحثا وأديبا عراقيا وهب قلمه وحسه ومكتبته في العقود الثلاثة الماضية لتوثيق الأحداث وسير الأعلام في العراق بخاصة، والجزيرة العربية بعامة.
عرفت هذا المؤرخ الكبير قبل نحو ربع قرن من خلال ثلاثة مدارات؛ الأول، معرفته العميقة بسيرة السفير السعودي الراحل محمد الحمد الشبيلي (أبو سليمان) التي عملت على تدوينها في كتاب صدر عام 1994م، وقد أسهم في الكتاب بمقال روى فيه ذكرياته مع السفير الشبيلي عندما كان دبلوماسيا في بغداد في مطلع السبعينات من القرن الماضي، في حين كان نجدت صفوة يعمل في وزارة الخارجية العراقية في منصب عال وثيق الصلة بالسفارات.
أما المدار الثاني، فهو كونه المرجع المفيد في سير الشخصيات العراقية بشكل عام، وكنت كثيرا ما أعود إليه في كتاباتي التوثيقية، التي تناولت سير رجالات كانت لهم علاقة بالمملكة العربية السعودية، من أمثال الدكتور عبد الله الدملوجي وعبد اللطيف باشا المنديل ورشيد عالي الكيلاني وهاشم الرفاعي وعبد اللطيف ثنيان ويونس بحري وغيرهم، وأحسب أنه كان يحتفظ بسجل معلوماتي لكل واحد منهم، فضلا عن كتاباته الزاخرة عنهم وعن أمثالهم.
أما المدار الثالث، فكان الموسوعات التوثيقية التي أصدرها متتبعا فيها ما تضمنته الوثائق البريطانية عن تاريخ الجزيرة العربية بعامة والملك عبد العزيز بخاصة وأصدرها في مجلدات عدة، فلقد كان من أقدر من نقب في تلك الكنوز واستخرج ما فيها من معلومات صحافية وسياسية أفرجت عنها دوائر الخارجية البريطانية بعد مضي فترة من الزمن عليها، ولولا أنه كان مهتما بالتوثيق والتاريخ والسير والتراجم، ومدفوعا بالموهبة والعشق، لما ثابر بدأب على هذا العمل المضني، مستفيدا بالتأكيد من خلفيته العملية السابقة في وزارة الخارجية العراقية وفي الممثليات التي عمل فيها حول العالم، ومن بينها القنصلية العراقية في جدة مطلع الخمسينات الميلادية.
ومن خلال التقدير البالغ لاهتماماته التاريخية وقدراته التوثيقية، كنت على تواصل معه، وسعدت بزيارته قبل بضعة أعوام، وهو منكب على أبحاثه في منزله في عمان بالأردن، القطر العربي الذي تحمل الكثير من مصائب عظمى حلت بجيرانه غربا وشرقا وشمالا، واستوعب بنخوة كل الهجرات التي وفدت إليه منها، وقد ذكر لي في حينه أنه يعمل على توثيق سير الأعلام الأردنيين، مدفوعا بالتقدير والوفاء لاستضافة الأردن للأهل والأشقاء من النازحين العراقيين.
وكانت جريدة «الشرق الأوسط» أولى الصحف العربية التي رحبت بما كان يصدر عنه من رصد تاريخي للأحداث والسير والأبحاث، ومن آخر ما نشرت له الزاوية اليومية «هذا اليوم في التاريخ» ولم تتوقف الزاوية إلا عندما تقدمت به السن خلال العقد الماضي.
وما كان يجدر ببوابات الصحافة أن تمر وفاة هذا الباحث العربي القدير عليها دون ذكر واستحضار لما كان يصرفه من جهد فكري، أثرى به ثقافة التوثيق في العقود الماضية، وترك فيه نهجا فريدا بأساليب البحث واستقصاء المعلومات التاريخية من مظانها الأولية.
رحم الله عاشق التوثيق نجدت فتحي صفوة، المولود في بغداد عام 1923 م، والعزاء لأسرته ومحبيه والمستفيدين من علمه وتراثه ومنهجه والعشرات من كتبه والمئات من مقالاته وبحوثه، وشكرا للأخ الباحث والمصنف الأردني أحمد العلاونة، فلولاه لكنت آخر العارفين برحيله المفاجئ قبل يومين.
* إعلامي وباحث سعودي
8:2 دقيقه
TT
نجدت فتحي صفوة.. من الدبلوماسية إلى التوثيق
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة