محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

أشهر شفرة في التاريخ

أكتب هذا المقال من المدينة الإنجليزية العريقة بليتشلي بارك؛ حيث اخترق رجالها أشهر شفرة في التاريخ الحديث لآلة «إنغما» للجيش النازي الألماني. هذه الشفرة المخترقة عبر جهاز، ابتكره آلن تورينغ، حفظت أرواح الملايين، في حرب قيل إنها قصرت مدتها عامين بفضل هذه الشفرة المخترقة. وربما لم تولد اليوم هذه الأجيال، لو أن هتلر نجح في الحرب العالمية الثانية.
وكانت الآلة المبتكرة نواة لأول حاسوب من نوعه في العالم؛ إذ كان يحسب بسرعة هائلة الخيارات التي يجب استبعادها من قائمة الاحتمالات. «إنغما» enigma حسبما قرأت في قاموس «أوكسفورد»، هي كلمة إنجليزية تعني «لغزاً»، أو شيئاً غامضاً أو محيراً. وسميت كذلك لأن هذه الآلة التي ابتكرها المهندس الكهربائي الألماني، آرثر شيربيوس، غامضة، وتشبه ظاهرياً الآلة الطابعة القديمة لمن يراها لأول وهلة؛ لكنها زودت بلوحة «مفاتيح ضوئية» فوق لوحة المفاتيح التقليدية، تضيء حرفاً مختلفاً عن الحرف الذي تضغط عليه في لوحة المفاتيح التقليدية أسفلها. بمعنى آخر: يستطيع أن يدخل متلقي الرسالة حروفها غير المفهومة (المشفرة) فيها، عبر الضغط على لوحة المفاتيح العادية، فتضيء له الحرف الصحيح المقصود من وراء تلك الرسالة المبهمة، فيفهم النص المقصود. فمثلاً حينما تطبع حرف «g» (الوهمي) يظهر حرف «z» الصحيح، فتقرأ الكلمات. وكان يفعل الألمان ذلك حتى إذا ما وقعت في يد خصومهم لا يفهمون ما فيها من حروف أبجدية، إلا عبر آلة «إنغما» الموجودة عند الطرفين المتخاطبين.
المفارقة أن هذه الآلة ابتكرها صاحبها للمصارف والشركات المالية الكبرى، قبل أن يقرر هتلر أن يأخذها للجيش النازي. وبغض النظر عن وحشية هتلر، فإن في الحادثة رمزيتين مهمتين؛ الأولى هي خصلة بُعد النظر التي يجب أن يتحلى به أي قيادي، فيوظف كل جديد في تطوير مؤسسته وبلاده. إلا أن هتلر كعادته استخدمها في مزيد من التدمير، ومطامع التوسع، والعنصرية البغيضة. أما المفارقة الثانية، فهي أن الألماني الذي اكتشفها كان يقصد منفعة المصارف والشركات المالية الكبرى لحفظ مراسلاتها المالية، فجاء الحل من القطاع الخاص الذي يسبق بطبيعته العمل الحكومي بأشواط كبيرة.
وقوة هذه الآلة العجيبة آنذاك تكمن في أن فكها يحتاج إلى أكثر من 150 مليون احتمال لمعرفة الشفرة، وهو ما نجح الإنجليز في التوصل إليه بعد محاولات إلكترونية مماثلة. ومن المفارقات أنه مهما أوتيت من عبقرية أو قرارات، فإنك عرضة للخطأ. فقد اتضح أن مما سهل على الإنجليز الاختراق، أن الألمان كانوا يختمون رسائلهم بجملة: «يحيا هتلر» وما شابه. فركزوا عليها تجاربهم. ومن هذه الأخطاء أيضاً تكرار الشفرة الثلاثية التي كان يجب أن يعرفها كلا الطرفين المتخاطبين باختيار ثلاثة حروف لبرمجة الآلة. فكان من يرسل الرسالة يختار حروفاً متتالية، فسهل فهم بعض الرسائل المخترقة. وربما هذا ما أنشأ مبدأ ما زلنا حتى يومنا هذا نمارسه، وهو رفض مواقع معينة قبول رقم سري جديد فيه أحرف أو أرقام متتالية؛ لأنه يسهل التنبؤ بها. وهذا كله دليل على أنه مهما أوتي المرء من قوة وذكاء وسلطة، فقد يأتي يوم يرتكب فيه خطأ جسيماً.
كما أن اختراق رسائل أخرى من نوع مختلف، ساعد الإنجليز على إرسال رسائل مفبركة لعدوهم، أوحت إليه بأن حشوداً هائلة من عناصر الجيش الإنجليزي في جنوب شرقي إنجلترا، ومئات الدبابات والطائرات والبواخر الحربية ستعبر القناة البحرية باتجاه أوروبا؛ حيث تتمركز قوات هتلر. ورغم أن قادة الجيوش الألمانية لم تصدق تلك الرسائل؛ فإنه يروى أن هتلر قد صدقها، وانعكس ذلك على قراراته.
نستفيد من هذه الحادثة المهمة أيضاً، أن هتلر لجأ لشركة خاصة تدعى «Lorenz & Baudot» تضم علماء نابغين لاقتناء آلة مشفرة خاصة به، على غرار «إنغما»، ليتخاطب بها بسرية تامة مع قياداته، من دون أن يعرف الجيش النازي فحواها؛ إلا أنها أشد تعقيداً. وهذا يعني أن للعلماء وأبحاثهم دوراً مهماً جداً، وهو أيضاً ما ساعد الإنجليز حينما ذهبوا لشركة تصمم لهم فكرة الحاسوب، في وقت نرى في معظم بلداننا كيف تقلص ميزانيات البحث العلمي، إن كان يولي المسؤولون لنتائجها أصلاً اعتباراً يذكر في قراراتهم.
باختصار، كانت وما زالت الحلول الخلاقة تأتي من مسؤولين أصحاب بصيرة، وعلماء، وعباقرة، فسح لهم المجال في التألق، بعيداً عن حفلات التضييق والتخوين ومحاكمة النوايا. وهكذا تنجح الأوطان في تضافر كل فئات المجتمع، تحت راية الوطن ورفعته.

[email protected]