خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

في القمامة العلامة

من الأمثال الحكيمة قولهم «اسأل الخبير ولا تسأل الطبيب». ويظهر أننا على أبواب مثل جديد يقول اسأل الزبّال ولا تسأل المسؤول. فقد جرت قبل سنوات دراسة علمية في بريطانيا في ميدان الاقتصاد للتعرف على مدى دقة التوقعات الاقتصادية التي تتوقف عليها مليارات الدولارات ومصير الملايين من البشر. فالمعروف أن التوقعات الاقتصادية أقل الأبحاث العلمية مصداقية وثباتاً، حتى إن الكثيرين يرفضون إطلاق صفة العلم على مادة الاقتصاد ويجعلون دراسته ضمن الدراسات الأدبية وليس العلمية.
في محاولة التحقق من ذلك، أجرى في بريطانيا فريق من الباحثين اختباراً على عدد من علماء الاقتصاد ووزراء المالية وتلامذة أكسفورد ومديري الشركات والزبالين! ما الذي يتوقعونه للاقتصاد البريطاني خلال العشر سنوات التالية؟
وبعد التمحيص الدقيق في إجاباتهم، تبين أن إجابة الزبالين كانت الأقرب للواقع والمصداقية من إجابات الآخرين من وزراء وخبراء ومديرين وأساتذة. وكانت الفضيحة أن علماء الاقتصاد كانوا الأقل دقة ومصداقية في التوقع من الآخرين!
اندهش الجميع من النتيجة ولكنني شخصياً لم أشعر بأي غرابة. فالزبال، حامل القمامة، هو المشاهد العارف وصاحب التجربة اليومية. القمامة أحسن مؤشر على حالة الجمهور الاقتصادية. فعندما تمتلئ براميل القمامة بأرغفة الخبز والطبيخ الجيد والفواكه الطازجة، فهذا دليل على حالة الرفاه والتفاؤل والكسب. وعندما يجدون أولاد الحارة منكبين على هذه البراميل يقلبون محتوياتها ويبحثون فيها، كما يجري الآن في إيران وسوريا، فهذا أكبر دليل مؤشر على الكارثة وضيق الحال. بل يمكن أيضاً تلمس الحالة الأدبية والذوق السائد ومستوى الإدراك من محتويات القمامة. فعندما يجدونها مليئة بروايات الكاتب المشهور فلان ودواوين الشاعر الشهير علان أو مؤلفات كارل ماركس مثلاً فهذا دليل على ارتفاع مستوى النضوج. كما أن وجود جرائد النظام القائم والمسؤول الكبير في تنكات الزبالة يؤشر على تخلص الجمهور من الجبن وروح الاستسلام وعلى تزايد النقمة والاستعداد للتحدي والتضحية والانتفاض الوشيك.
يقال مثل ذلك عن كمية القمامة. فإن مقدارها يتناسب تناسباً طردياً مع مقدار الرفاه. ففي البلدان الفقيرة، قلما توجد أي قمامة، بل إن هذه الكلمة غير موجودة أو معروفة أساساً في لغة بعض القبائل المتأخرة.
الغريب أن الجرائد والمجلات المالية والاقتصادية المهمة كـ«الإيكونوميست» و«الفايننشال تايمز» تورد غالباً شتى الأرقام المؤشرة للحالة الاقتصادية، كسعر الفائدة وسعر الذهب والنفط والمعادن النفيسة ولا تذكر شيئا عن كمية القمامة ونوعيتها. وفي هذا درس لمديري البنوك ورؤساء المؤسسات المالية الكبرى. إذا كانوا يبحثون عن خبراء ومختصين مطلعين في الشؤون الاقتصادية والأحوال العامة، فما عليهم غير أن يبحثوا عنهم في صفوف الزبالين والكناسين.