فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

عودة المهجرين السوريين

تمخَّضت سنوات حرب نظام الأسد وحلفائه على السوريين عن تهجير نحو سبعة ملايين خارج بلدهم، كما شردت ما لا يقل عن ستة ملايين من الموجودين في سوريا خارج مدنهم وقراهم وبيوتهم، مما جعل محصلة المهجَّرين، تتجاوز نصف سكان البلاد طبقاً لأعدادهم المعلَنة في عام 2011، حين شرع النظام في حربه قتلاً واعتقالاً وتدميراً وتهجيراً.
وإذا تجاوزنا موضوع المهجرين في الداخل السوري، رغم أهميته باعتبار هؤلاء ما زالوا في بلدهم ولأسباب أخرى، فإن المهجرين في بلدان الجوار والأبعد منها، هم المقصودون بموضوع عودة المهجرين الذي يجري طرحه من قبل نظام الأسد وحلفائه الروس وبعض دول الجوار السوري، خصوصاً لبنان والأردن بدرجة أقل، وقد صدرت في الأسابيع الأخيرة تصريحات ومواقف كثيرة من أطراف عدة حول عودة المهجرين، وكان قاسمها المشترك مقاربة القضية بصورة سطحية لا تأخذ بعين الاعتبار الوقائع المحيطة بعودة المهجرين من جهة، وتخدم بصورة أساسية فكرة إعادة تأهيل نظام الأسد، لاستعادة مكانته التي فقدها بفعل حربه المدمرة، وما سبَّبته، لا سيما في موضوع تهجير السوريين.
آخر التصريحات المتعلقة بموضوع المهجرين، صدرت عن وزير خارجية الأسد وليد المعلم في كلمة ألقاها أخيراً أمام الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة، أشار فيها إلى ثلاث نقاط، تمثل ما يعتقد أنه بيئة مناسبة لعودة المهجرين، تتمثل في أن «الوضع على الأرض في سوريا أصبح أكثر أمناً واستقراراً»، وأن «المعركة ضد الإرهاب شارفت على الانتهاء»، وأن «الحكومة تعمل على إعادة تأهيل المناطق التي خربها الإرهابيون وإعادة الحياة إلى طبيعتها».
وبناء على هذه النقاط قال المعلم: «أودّ أن أُعلِن من هذا المنبر أن عودة كل سوري تشكِّل أولويةً بالنسبة للدولة السورية، وأن الأبواب مفتوحة أمام جميع السوريين في الخارج للعودة الطوعية والآمنة، وأؤكد أن ما ينطبق على السوريين الموجودين داخل الوطن، ينطبق على مَن هم خارجه، والجميع تحت سقف القانون».
كلام المعلم، وإن ظهر جديداً في المكان الذي قيل فيه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنه قديم في محتواه، وهو استمرار لمسلسل التضليل الذي اعتمده نظام الأسد حيال الداخل السوري والخارج طوال السنوات الماضية بمخالفة الوقائع القائمة على الأرض.
فالبيئة العامة للصراع في سوريا وحولها، ما زالت على حالها من حيث استمرار نظام الأسد وحلفائه في السير إلى النهاية في خيار الحل العسكري/ الأمني، ورفض الذهاب إلى حل سياسي للقضية السورية، مما يعني استمرار دور جيش النظام وأجهزته وحلفائه في قتل واعتقال وتشريد السوريين وتهجيرهم، ولولا الإغلاق شبه الكامل للحدود مع دول الجوار لتدفق ملايين السوريين الجدد إليها، ومنهم نحو ثلاثة ملايين في إدلب ومحيطها، يمكن أن يقتحموا الحدود التركية - السورية في حال بدء حرب النظام وروسيا على إدلب، كما يخطط الطرفان.
والنقطة الثانية، أن النظام وحلفاءه لم يقوموا بأي إجراءات تغييرية في طبيعة ووظيفة الهياكل التي شاركت في حربهم من القوات الروسية إلى الإيرانية وصولاً إلى الميليشيات الخارجية التي استقدموها من «حزب الله» والميليشيات العراقية والأفغانية.
والأهم أن ميليشيات النظام وشبيحته مستمرُّون في حضورهم ووظيفتهم الإجرامية ضد السوريين، وليس المعارضين فقط، بل إن بعضها أخذ يتمرد على النظام، كما حدث ويحدث في ريف حماة وفي مدينة اللاذقية، وكلاهما من المعاقل الرئيسية للنظام، مما يؤكد كذب فكرتَيّ أن «الوضع في سوريا أصبح أكثر أمناً واستقراراً»، وأن «المعركة ضد الإرهاب شارفت على الانتهاء».
والأمر لا يختلف كثيراً بصدد الفكرة الثالثة المتصلة بعمل حكومة الأسد على إعادة تأهيل المناطق، وإعادة الحياة إلى طبيعتها، وثمة أمثلة كثيرة يمكن استعارة مثالين منها في أقرب المناطق للعاصمة دمشق، أولهما داريا، التي لا تبعد عن دمشق إلا بضعة كيلومترات فقط، وما زالت خراباً بعد أعوام من سيطرة النظام عليها وتشريد أهلها، وفيهم قسم كبير تحت سيطرة نظام الأسد، والحالة مماثلة كما في مدن وقرى وادي بردى غرب العاصمة. بل إن حكومة الأسد لا تفعل شيئاً لمشردين يعيشون مكتظين منذ سنوات في حدائق دمشق، رغم أن بيوتهم صارت تحت سيطرة النظام، ولا تبعد سوى كيلومترات فقط عنهم.
والنقطة الرابعة في كلام المعلم، تتعلق بالعودة الطوعية للمهجرين، التي تخالف الحقيقة بصورة مطلقة من ناحيتين؛ أولاهما ضغوط الوضع الإنساني الصعب الذي يعيشه المهجرون، خصوصاً في الأردن ولبنان، وهو آخذ في التدهور بعد خفض الإعانات التي تقدمها الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الأخرى، وتردي أوضاع السكن والعمل والخدمات الصحية والتعليمية للمهجرين مضافاً إليها تدهور الأوضاع الأمنية للمهجرين في لبنان نتيجة تنامي النزعات العنصرية وممارسات الجيش والقوى الأمنية وميليشيات «حزب الله» ضدهم. والثانية تدخل «حزب الله» لإجبار المهجرين على العودة إلى سوريا بالترغيب والترهيب، طبقاً لما أشارت إليه تقارير منظمات حقوقية ومؤسسات إعلامية تتابع أوضاع المهجرين السوريين في لبنان.
والأغرب في كلام المعلم، والأقل توافقاً مع الحقيقة أمام الجمعية العامة، قوله: «ما ينطبق على السوريين الموجودين داخل الوطن، ينطبق على مَن هم خارجه والجميع تحت سقف القانون»، متناسياً أن البلاد صارت تحت احتلالات متعددة من دول وميليشيات، كل منها يمارس سياساته طبقاً لمصالحه بغض النظر عن «القانون» السوري الذي لا تحترمه ولا تطبِّقه حكومة الأسد، إنما تعتمد إشاعة الفوضى، وتترك التصرف بحياة السوريين وشؤونهم أسير مزاجيات ومصالح النافذين والشبيحة والأمنيين وعسكر النظام وميليشياته، وهذا لا ينطبق على المقيمين في مناطق سيطرة النظام، إنما أيضاً على المناطق التي تمت استعادة السيطرة عليها أخيراً، وعلى آلاف المهجرين العائدين إلى سوريا الذين يخضعون لإجراءات أمنية شديدة، تقودهم في الغالب إلى واحد من حالتين؛ إما الربط مع أجهزة المخابرات، أو التجنيد في قوات النظام وميليشياته، أو الزج في سجون ومعتقلات النظام وانتظار الموت تحت التعذيب.
عودة المهجرين، كما يطرحها النظام، ليست بعيدة عن فكرة المجتمع المتجانس، التي طرحها رئيس النظام بشار الأسد، وهي في جانب آخر من وجوهها تضليل للرأي العام هدفه إعادة تطبيع علاقات النظام مع العالم، وبوابة من أجل استجلاب أموال من أجل «إعادة الإعمار»، التي ستوزع فرصها على حلفاء النظام وأصدقائه، ومصلحة المهجرين في ذلك لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة!