محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

المجد للعواجيز والفخار

عالم «الجغرافيا البيولوجية» وأستاذها جارد دياموند في كتابه المُزلزِل «جراثيم، أسلحة، وفولاذ» الصادر عام 1997 والحائز جائزة «بوليتزر»، والذي ظل على رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لسنوات، ولا تزال تتجدد طبعاته، وسَّع في طبعته الأخيرة وعمّق باباً عنوانه «من هم اليابانيون؟». ويمكن إجمال الرد على هذا السؤال مما أورده ذلك الفصل بأنهم «الجماعة البشرية التي نهضت على أكتاف أواني الفخار وحكمة العواجيز». لكن سيناريو هذا النهوض الياباني الأبكر يفاجئنا بأن ما نعرفه مما يُسمَّى التاريخ، لا يعدو أن يكون شذرات من بشرة - قشرة - مسيرة البشرية على الأرض. وأن ثمة أنماطاً تاريخية أعمق وأعرض لنشوء الجماعات البشرية لا تزال تتفاعل، وتدق جرس الإنذار بأن مصير البشرية مرهون ليس بيد الإمبراطوريات والأباطرة وتلويناتهم الفجة على مر الزمان، بل إن حياتنا على الأرض مرهونة بحيوية البيئة، واحترامنا لهذه الحيوية أخذاً وعطاءً.
هذا الكتاب القائمة رؤاه على دراسة الحفائر، وتتبُّع التسلسل الوراثي للنباتات والحيوانات وبقايا الأقدمين بدراسة طفراتها الجينية، يحكي أنه: قبل ثلاثة عشر ألف سنة بدأ انقشاع العصر الجليدي. صار الجو أدفأ وذابت جبال الجليد بسرعة. ارتفعت مياه البحر فتحولت أرض اليابان إلى أرخبيل من الجزر التي تحيط بها المياه. غرقت الجسور التي كان يأتي عبرها الغزاة من التخوم ليغِيروا على الجماعة البشرية اليابانية التي كانت مستضعفة وقليلة العدد على هذه الأرض. وتوافرت لليابانيين للمرة الأولى درجة عالية من الأمن في جزرهم المحاطة بخنادق طبيعية من مياه البحر. وفي هذا الأمان جادت الطبيعة على اليابانيين بغزارة أمطار غير مسبوقة. وصار الجو الدافئ رطباً فسادت غابات أشجار الجوز المثمرة مع تراجع أشجار الصنوبر العقيم. ومع تزايد مساحات النباتات المغذية على البر فاضت سواحل الجزر بغذاء البحر. وبمواكبة كل هذه النعم وقع اليابانيون على اختراع الفخار، فكان الفرصة التي لا تأتي إلا لمن يستحقها!
رغم أن الجدل العلمي لا يزال مستمراً حول أسبقية اختراع الفخار في العالم، فإن آخر قياسات أعمار بقايا الفخار القديم بالأشعة الكربونية قطعت بأن الريادة لليابانيين الذين صنعوه قبل 12700 سنة. لكن المدهش في الحالة اليابانية أن اختراع الفخار لم يكن تالياً لاستقرار الجماعات البشرية والدخول في رحبات حضارية كالزراعة والصناعة. فعلى العكس من ذلك امتلك اليابانيون الفخار وهم بعد صيادون وجامعو ثمار رحَّل. وكان الفخار بداية لاستقرارهم ونهوضهم الأبكر والأعمق في عمر الزمان!
كان الفخار الياباني الأول بسيطاً يُصنع باليد ودون دواليب دوارة ويُخبز في نار مفتوحة بدلاً من الأفران. ولم يكن يُزيَّن إلا بتمرير خيط أو حبل عليه وهو طري فيترك نقوشاً بسيطة سُمِّيت «جومون» أي التعليم بالخيط. وسُمِّي منتجو هذا الفخار «شعب الجومون». وبهذا الفخار البسيط الأول أصبح لدى اليابانيين أوعية لا يخُرُّ منها الماء. يمكن سلق الطعام فيها أو تسخينه. صار ممكناً طبخ الخضراوات المورقة التي كانت تحترق في النار عند محاولات شيّها. والثمار التي كانت مُرَّة كالبلوط وكستناء الخيل بات نزع المرارة منها ممكناً بالنقع في أواني الفخار. ومن فيض هذه الأغذية التي طرَّاها الطبخ صار ممكناً فطام الرضع بعد فترة رضاعة أقصر، فأتاح للأمهات أن يحملن أبكر ويلدن أكثر، فازداد عدد اليابانيين من بضعة آلاف إلى ربع مليون آنذاك. أما المسنون الذين كانوا يفقدون أسنانهم مبكراً فيصعب عليهم أكل الأغذية الصلبة ويموتون مبكراً بسوء التغذية فأصبحوا يتغذون بوفرة ويسر من الأطعمة المطبوخة الطرية. يعيشون أطول وينقلون للأجيال الجديدة من مستودع معرفتهم وخبرتهم أكثر وأغزر.
إنها قصة موثقة بتحريات العلم ومُصدَّقة بدليل خصوصية معجزة يابان الحاضر، التي رغم تفوقها الصناعي الساطع لا تزال تطور فخار فجر نهضتها وتتسنم به القمة. ولا تزال تعتز بأن لديها أكبر نسبة مسنين في العالم... وأكثر عددٍ ممن فاقوا عمر المائة.