فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

«الورق المقدّس» وحكاية «كيندل»

لم يعد الحديث عن نهاية الورق مجدياً، لأن تلاشيه بات ماثلاً للعيان. الناشرون الآن يدركون مستوى التهاوي للكتاب الورقي، والذكي منهم من يبدأ بتبويب الأمور على هذا الأساس. ومفهوم الانتهاء لا يعني الاختفاء من الأيدي ووقف الطباعة؛ فهذا أمر ممتنع حالياً. وأنا، مثل غيري، أعدّ الكتاب الورقي أكثر جديةً... اقتناؤه له متعة، والقراءة من خلاله تتفوق على كل الصيغ الأخرى، ولكن العالم يصنع حلوله كلما عمقت مآزقه، والكتاب الورقي الأثير بعبق الورق واصطفافه بين أرفف الخشب وصورته عليها مثل قصيدة، ولا أجمل من مكتبة أنيقة مصفوفة، وقارئ نهم.
يتجه الكتاب الورقي نحو الذبول بسبب نزول مستوى المبيعات لدى دور النشر بشكل عام، إلا من الكتب الصارخة التي يتبعها الجمهور مع الآخرين، من الكتب المصنفة «الأكثر مبيعاً»، وهذا يضغط على الناشر مادياً. الأمر الآخر؛ تحولات الاهتمام بين الجماهير مع الأجهزة الكفيّة واللوحيّة، مع عدم نسيان جانب انتشار الاغتباط بالجهل والشعور بالامتلاء غير المبرر لدى قطاع عريض من الناس.
ولكن هل تضاؤل الكتاب الورقي يعني نهاية العالم؟! سيبقى الكتاب الورقي مهماً للنخب، فهو المصدر والمرجع، وهو أساس المصداقية العلمية والبحثية، ولكن على مستوى الجماهير لن يكون الاقتناء مهماً. مع انتشار القرصنة، انتشرت الكتب على صيغة «بي دي إف» وتتم قراءتها عبر جهاز الجوال، أو الـ«آيباد»، وهذا مزعج للعين، والأفضل للمضطر أن يقرأه عبر الكومبيوتر المكتبي. وبنظري أن هذه الصيغة هي أحط الصيغ، ولا يلجأ لها إلا اضطراراً، مع الحذر ساعة الاقتباس منه إنْ كان لتدوين ورقة أو بحث، والتعويل على المصدر البحثي الورقي أو النسخة المضبوطة المشتراة من «أمازون» أو إحدى المكتبات موضع الثقة وبشكل قانوني.
التجربة الأخرى كانت لجهاز «kindle» (كيندل) بنوع «بيبر وايت»، وهي تجربة أولى لهذا الجهاز البديع، لا يمكن أن يغنيك عن الكتاب الورقي، ولكن مع اهتمام «أمازون» بالكتاب العربي وإضافة آلاف الكتب إلى مكتبتها بات بالإمكان قراءة الكتب الكلاسيكية والتراثية والأدبية بل والفكرية والفلسفية بصيغة آمنة، وبنسخ موثوقة. ورغم مرور أحد عشر عاماً على صناعة أول جهاز «كيندل»، فإن النسخ الحديثة والمتطورة منه سحرت الألباب. بشرائك الكتاب تستطيع تظليل النص المراد، وكتابة هوامشك بسهولة، والاحتفاظ بتعليقاتك وانتقاءاتك للعودة إليها متى شئت بمستندٍ يحفظها تلقائياً، هذا فضلاً عن الإضاءة المتزنة، ونوع الخط المضبوط الذي يريح القارئ ولا يشعره بأنه خارج كتابه الورقي الأثير. وقد جربته شخصياً منذ سنة وحتى الآن، فإنه رافد مهم للقراءة مع أن الغلبة والأساس للكتاب الورقي، ولكن الجهاز يغنيك في الأسفار والأماكن العامة والمقاهي، خصوصاً إذا اخترت كتبك بعناية؛ إذ يمكنك تحميل مئات الكتب مع اتساع مساحات التخزين بالأجهزة الحديثة.
إن التطرف بتقديس الكتاب الورقي يمكن فهمه على المستوى البحثي، وحين نتحدث عن التضاؤل، فإننا نتحدث عن وقائع على الأرض. كلنا لا نود لهذا الكتاب الجميل أن يذوي، ولكن في كل الأحوال ستبقى مكتباتنا في بيوتنا نغذيها بجديد الكتب الورقية من أنحاء العالم، وستبقى المكتبات العامة، ودور النشر القوية المستقرة مادياً أو المدعومة حكومياً ستبقى في الطباعة وتشجيع النشر، ولكن الحديث عن الإجراءات المرتقبة. أتمنى من دور النشر العربية التعاقد مع «أمازون» لفتح استثمار جديد من خلال إتاحة الكتب بمكتبة «أمازون» لتغذية المحتوى العربي بها، وهذا يفتح أيضاً مجال استثمار ودخل إضافي من دون مجهود استثنائي أو خارق، على عكس الكتاب الورقي.
بالطبع حين نتذكر الجاحظ وبورخيس ومانغويل وإيكو وسواهم من عشاق الكتب، ومدمني الورق، نشعر بالمرارة من أن تنهار صناعة الكتاب الورقي العربي، ولكن علينا التكيّف دائماً والسعي مع الناشرين نحو صيغ أكثر ديمومة، وأقدر واقعية للتغلب على مفاجآت التقنية، خصوصاً منها ما يجمع بين الرشاقة والاختصار، والموثوقية وجودة المحتوى مثل جهاز «كيندل» العظيم، هذا أفضل من البكاء على اللبن المسكوب. المآزق التي تحدث للكتاب ليست اختيارية... لا تفيد معها قصائد التبجيل ودموع الحنين، فهناك واقع مختلف يتعلق بمفهوم القراءة وبمستقبل صناعة الكتاب. هذا أمر واقعي جارف علينا استيعابه، وبعد أن نستوعب ذلك يمكن لأي كان أن يلقي قصائد المدح وتراتيل التقديس للكتاب الورقي. فرق بين ما هو واقع وما نرغب فيه.
مؤرخ الكتب وكاتب «تاريخ القراءة»، ألبرتو مانغويل يقول في كتابه «المكتبة في الليل» وفي فصل «المكتبة كظل»: «وطأة الغياب هي إلى حد بعيد سمة كل مكتبة، كما ضيق أفق الترتيب والمساحة، في مكتبة الجامعة التي درست بها (جامعة بوينس آيرس الوطنية) كنا نشعر بأن ذاك الغياب يكمن وراء الأبواب الخشبية المخاتلة، في الكآبة المحتفى بها، وتحت الظلال الخضراء للمصابيح التي كانت تذكّرني بشكل مبهم بمصابيح مقصورات النوم في السيارات. أعلى السلالم الرخامية، تحت الأرض المرصوفة، بين الأعمدة الرمادية، بدت المكتبة ككونٍ موازٍ، كلاهما مخيف ومعزّ، وداخلها كانت حكايتي الخاصة؛ مغامرات أخرى ونهايات أخرى».