على مدار السنين، وعبر مراحل عدة، وقع هذا الأمر في غير مجتمع عربي، وفي مجتمعات أخرى تنتمي لما عُرف بدول «العالم الثالث»، عندما رفع الحزب الحاكم، أو الزعيم الفرد، الشعار الآخذ بالألباب، فزعم أن «الحكم للشعب»، بينما في الواقع، وحيث أمكن قمع الحريات، بتكميم الأفواه، وتكبيل الأيدي والأرجل، كان الشعب هو المُغيَّب الأول. مع ذلك، كان التبرير رهن الإشارة في أغلب الحالات، إذ يكفي أن يُثار مجرد استفسار عن أسباب التضييق على السواد الأعظم من الناس في مجالات الحياة كافة، تقريباً، حتى يُلقَم مثير التساؤل الجواب الحاضر، دائماً: أمن البلد يجب أن يسبق أولاً، هل عند حضرتك أي شك في ذلك؟
بكل تأكيد كلا، ليس من شك أو جدال في ضرورة وضع أمن أي مجتمع على رأس الأولويات. بيد أن تسليماً منطقياً بأن الأهم يسبق المهم كهذا، يجب ألا يحول دون التدقيق في تجاوز ممارسات أنظمة حكم لكل منطق، بزعم أن اللامعقول يجوز له أن يجُب المعقول تحت ذريعة الأمن، أولاً، وباسم مصلحة الشعب، ثانياً، حتى إن الغالبية العظمى هي، تحديداً، التي سوف تعاني أكثر من غيرها، وخصوصاً، أكثر بكثير من معظم متخذي قرار يرفع الأسعار، أو يزيد الضرائب، مثلاً، وفي المقابل يلغي دعم سلع أساسية من دونه لا يعود في متناول محدودي الدخل ضمان أساسيات العيش الكريم.
الأرجح أنه ليس من باب التجني القول إن ظاهرة كهذه حكمت مسار أغلب أنظمة حكم في عواصم عربية، وإسلامية، وصل قادتها إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، ومن ثَمّ اعتمدت مبدأ تغيير ثوري راح يقلب كل أسس المجتمع رأساً على عقب، بدعوى أن القديم كله سيئ، وأن التجديد يعني نسف كل ما كان قائماً، بصرف النظر عما إذا كان ما سوف يحل محله قائماً على أساس علمي، أو أنه مجرد انسجام مع هوى عقائدي لحزبٍ، أو جماعة، أو تنظيم، أو حتى لإشباع خيال ذاتي تصوّر، واهماً، أنه يملك الحلول لمعضلات المجتمع كافة. ماذا كانت النتيجة؟ تراجع مستويات التعليم، وهو الأهم في تقدم أي شعب، مقابل ارتفاع معدل الإنفاق في مجالات محددة، على وجه التحديد في مجال التسلّح، بالطبع لأجل حماية الشعب، وتزايد التضييق على خناق الحريات، أيضاً باسم الأمن، بينما كل الشواهد تؤكد أن الهدف هو تحصين النظام ذاته ضد أي اختراق محتمل.
رغم ذلك، تثبت شواهد الأمس القريب والبعيد، وبعض ما يجري على مسرح أحداث الحاضر، أن كل محاولات تغييب طموح الشعوب في حياة تكفل الحد الأدنى من الحريات، محكوم عليها بالفشل، ولو بعد حين. ما جرى خلال العرض العسكري بالأحواز في إيران يوم السبت الماضي يصلح لأن يُضرب مثلاً واضحاً على ذلك الفشل. ورغم الاختلاف التام مع منهج منفذي ذلك الهجوم، وضرورة التعاطف الإنساني مع آلام ذوي الضحايا، يظل من الجائز القول إن نظام ملالي طهران تجرّع مرارة نهج كأسٍ لا يتورع عن إرغام الآخرين على تجرعها، وأيضاً بزعم الدفاع عن الشعوب الإيرانية بكل أعراقها، رغم أن دافع الثمن المُر هو المواطن الإيراني.
باسم الشعب، أيضاً، يجري تغييب مصالح الشعوب في جوانب تضاف إلى التلاعب في الجانب الاقتصادي، أو التراجع في مستويات التعليم، أو إهمال مستشفيات القطاع العام لصالح مشافي العلاج الخاص. يحدث ذلك عندما يطول العبث قضايا مصيرية، كما الحال مع دوامة التصالح بين حركتي «فتح» و«حماس» في فلسطين. لو سئل أي مسؤول في الحركتين، قبل عشر سنوات، عما يعيق تفاهم أكبر تنظيمين على ما فيه صالح الفلسطينيين، لسبق قوله أي انتظار من السائل، كان سيسارع للقول إن الحرص على قضية الشعب الفلسطيني هو العائق الأوحد. حسناً، السؤال نفسه سوف يلقى الجواب ذاته الآن، وربما بعد عشر سنوات، فأبشر، إذن، يا شعب فلسطين، وانتظر. ترى، كم من مآسٍ ظلت تُرتكب باسم كثير من الشعوب، منذ أزمان، وكم منها سوف يُقترف، بينما، في أول المطاف وآخره، يظل السواد الأغلب من الناس، هم، في واقع الأمر، الشعب المُغيَّب.
8:2 دقيقه
TT
الشعب هو المُغيَّب
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة