سعيد بنسعيد العلوي
كاتب واكاديمي مغربي
TT

داعش وغير داعش: يوتوبيا الخلافة

تعني كلمة «يوتوبيا»، في أصلها اليوناني، الوجود في غير مكان. وفي عبارة أخرى الوجود في الوهم أو في الخيال المطلق، في الخيال إذ يجمح بصاحبه فيرسله يمينا ويسارا. اليوتوبيا عالم عجيب، مفارق للواقع، يرسمه صاحبه ويركبه في خياله على نحو يجمع فيه كل ما كان يفتقده في الواقع العيني: إما لأنه عاجز عن تحقيقه أو لأنه ليس من شأن الواقع البشري أن يجعله أمرا ممكنا، وقد يلتقي الأمران معا ويتداخلان فيما بينهما ويتفاعلان. وقد أبدع العقل البشري صورا ونماذج شتى لعوالم لا تمت إلى الواقع الممكن بشريا بصلة. لعل أقدم العوالم التي رسمها خيال المفكرين جمهورية أفلاطون، التي تعرف اختصارا بـ«الجمهورية». وفي تراثنا العربي الإسلامي اشتهر الكتاب الذي ألفه فيلسوفنا العربي الكبير أبو نصر الفارابي: «المدينة الفاضلة». غير أن كلا من الفارابي وأفلاطون (وفي الإمكان أن نضيف إليهما أسماء عديدة نذكر منها القديس أوغسطين في كتابه «مدينة الله»، والإنجليزي طوماس مور في كتابه «مدينة الشمس») إنما كتبوا ما كتبوه لأغراض تعليمية أولا وأساسا، بمعنى أنهم كانوا يقصدون تقريب صور ومعان إلى الذهن البشري أو يرسمون عوالم يجعلون لها من القيود والشروط ما كانوا يعلمون، قبل غيرهم، أنها في تعارض مع الطبيعة الإنسانية، وفي تناقض مع ما يقضي به سير التاريخ البشري. لا يمكن قراءة «الجمهورية» في معزل عن الصرح الفلسفي الكبير، الذي سعى أفلاطون إلى إقامته - صرح النظرية المثالية أو عالم المثل المفارق للواقع بطبيعته. كما أن «المدينة الفاضلة» للفارابي لا تفهم دلالتها خارج الهدف البيداغوجي الذي جعلت له وهو أن نقرب من الذهن مختلف صور الاجتماع البشري وأنماط الحكم السياسي الممكنة. هل كان أفلاطون يتطلع إلى عالم يحكمه الفلاسفة، فهو يرى فيه مكانا بجانب الحكام أو يرى نفسه في مقدمتهم؟ هل كان أبو نصر الفارابي يرسم، في الخيال المجرد، الصورة البديعة لوجود ليس يحكمه سوى «الإمام المعصوم»؟ تلك قضية أخرى كانت مثار جدل بين أهل الفكر وفلاسفة الحكم لا علاقة لها بما نريد أن نعرض له من حديث، إلا أن يكون على سبيل التذكير بتحكم الوهم من الإنسان وعجزه عن التخلص منه، وإلا أن يكون من التاريخ الفكري، دليلا على أن للوهم أسبابا تحمل على تصديقه من قبل الذين يتلقونه.
في هذا الصدد نقول إن ما يدور اليوم من حديث، بل وما يقع من أحداث دموية، وما يتم من أفعال فاشية ترتبط بما تذكره وسائل الإعلام تحت اسم «داعش» وما تم الإعلان عنه من قيام «دولة الخلافة» وتنصيب «خليفة المسلمين»، من حيث العالم الموجود في لا مكان (كما يقول الفلاسفة) لا من حيث المنحى التعليمي. وأما إراقة الدم وقطع الرؤوس باسم الإسلام ونصرته، وأما إشاعة الرعب والإرهاب وإباحة الفساد بدعوى إقامة الخلافة أو إحياء الخلافة، فتلك، للأسف، أمور لا نعدم لها أمثلة من التاريخ العيني للمسلمين في مختلف العصور.
«دولة الخلافة»، أو «الخلافة الثانية»، أو «استعادة دولة الخلافة الراشدة»، كل هذه تسميات تفيد معنى واحدا في العمق وتكشف عن هدف ثابت لا يتغير وإن تغيرت الوسائل المتاحة، وإن أصبحت ظروف الوجود العربي الإسلامي اليوم (إقليميا ودوليا) على غير ما كانت عليه بالأمس القريب. كل هذه التسميات تستهدف استحضار المخزون النفسي العربي الإسلامي وتوظيفه لخدمة أغراض سياسية هي تلك التي تكون للفرد الواحد المغامر أو للشرذمة القليلة التي تسعى إلى التوسل بالدين الإسلامي (من خلال أحد الرموز الكبرى الفاعلة = رمز الخلافة أو السلطة السياسية الواحدة التي يلتئم حولها شأن المسلمين). والملاحظة البارزة للعيان هي أن كل المفاهيم الثلاثة المذكورة أعلاه (فضلا عن تجلياتها المتنوعة في خطاب كل من «القاعدة»، «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، «أنصار السنة»، واللائحة طويلة؛ فالأسماء تختلف باختلاف أمكنة الوجود في أوروبا وأفريقيا ودول الشرق الأقصى وفي غيرها) تتصل بالأزمنة القريبة فحسب، لا، بل إنها لا ترقى إلى أبعد من عقود أربعة في أقصى الأحوال. وفهم مغزى هذه الملاحظة يستوجب توضيح أمرين اثنين، أولهما هو أن فكرة «الخلافة الراشدة» على النحو الذي تمثل به في خطاب حركات «الإسلام السياسي» بمختلف تلويناتها وتعدد أطيافها لا تقبل الاندراج في قائمة الفكر السياسي الكلاسيكي في الإسلام: نقصد بذلك أنه من غير الممكن أن نجعل فكرة «الخلافة الثانية» جنبا إلى جنب مع نظرية الخلافة كما يبسطها كل من الماوردي الشافعي وأبي يعلى الفراء في كتاب «الأحكام السلطانية»، ولا كما يتحدث عنها ابن خلدون. الأمر الثاني هو أنه لا مكان ممكن لفكر «الإسلام السياسي» عند المفكرين العرب الإصلاحيين في المرحلة التي نتواضع على تسميتها عصر النهضة أو اليقظة العربية. أما الفكر السياسي الكلاسيكي (كما ننعته) فقد كان يسعى إلى التشريع استمدادا من تاريخ الإسلام واستلهاما من تجارب الأمم، واستحضارا لقواعد الاجتهاد وموجهات البحث عن مقاصد الشريعة. وأما مفكرو الإسلام في عصر النهضة فقد كانوا لا يرون تعارضا بين الدرس الذي يستفاد من الفكر السياسي الحديث وبين النظرية السياسية الممكنة إسلاميا.
لست أريد أن أعرض لعمل «داعش» وأخواتها، ولست أريد أن أخوض في قضية التوسل بالدين الإسلامي لخدمة غرض مرسوم وأهداف تلتقي مع الأهداف التي ترسمها استراتيجية كبرى تتجاوز «داعش» وما إليها، فتلك قضية واضحة وذاك أمر لا نعتقد أنه في حاجة إلى مزيد بيان. ما أود قوله، اختتاما لحديث التذكير هذا، هو أن مغالطة شديدة وخطأ تاريخيا جسيما يكمنان في هذه الجملة التي نقرؤها عند المنظر الأول لجماعة الإخوان المسلمين (وكل دعاة «الخلافة الثانية» وما في معناها ثمرة لها): «الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها».
قول يكذبه التاريخ وترفضه طبائع العمران، كما يقول ابن خلدون.