ليونيد بيرشيدسكي
TT

تخيل البلقان من دون «بلقنة»

بعد نحو عقدين من نهاية الحرب الأخيرة في غرب البلقان تبدو ثمة فرصة أن تختفي كلمة «بلقنة» من المنطقة. أخيرا تقف الدول التي خرجت من عباءة يوغوسلافيا أمام فرصة واقعية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. إلا أن استغلال هذه الفرصة وإقامة سلام دائم يستلزم حل الصراعات القليلة التي لا تزال مستعرة داخل المنطقة، وأبرزها الصراع بين صربيا وكوسوفو.
في أغسطس (آب) ظهر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بجوار نظيره الكوسوفي هاشم ثاتشي في مؤتمر صحافي بالنمسا - وهو أمر لم يفعلاه من قبل - للحديث عن تسوية ممكنة بين الدولة الأم السابقة والمنطقة المنفصلة عنها. وبدت تلك لحظة مفعمة بالأمل، لكن سيتعين على جميع الأطراف المهتمة بالبلقان، وجميع الدول الأوروبية الكبرى بجانب الولايات المتحدة والصين والدول النفطية شرق الأوسطية إظهار قدر أكبر من الصبر قبل أن يتحول هذا الأمل إلى نتائج ملموسة.
ومن المعتقد أن الاتحاد الأوروبي الكيان الأكثر فاعلية في إرساء السلام على مستوى العالم، الذي يميل نحو إلغاء الحدود وتسوية النزاعات من دون استخدام القوة. جدير بالذكر أنه حتى هذه اللحظة انضمت دولتان فقط من دول يوغوسلافيا السابقة، وهما سلوفينيا وكرواتيا، إلى الاتحاد الأوروبي، بينما ظلت الخمس الأخرى، بما فيها كوسوفو، التي كانت آخر الدول التي أعلنت استقلالها، ولا يزال غير معترف بها من جانب خمس من دول الاتحاد الأوروبي، خارج الكتلة الأوروبية. وتعاني هذه الدول من تخلف اقتصادي وفساد ونمط من الصراعات لا يرغب الاتحاد الأوروبي في وجوده بين أعضائه.
في فبراير (شباط)، أقرت المفوضية الأوروبية وثيقة ترمي إلى منح دول غرب البلقان «إمكانية قوية» للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مع تحديد عام 2025 باعتباره التاريخ المستهدف. وكان ذلك قرارا تاريخيا، خاصة أنه بعد ضم هذه الدول لن يتمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق مزيد من التوسع دون التحرك إلى داخل دول الاتحاد السوفياتي السابق.
وقد تعززت هذه الإمكانية بسعي حكومة مقدونيا إلى تسوية صراعها القائم منذ فترة طويلة مع اليونان، التي تطلق اسم الدولة التي كانت تنتمي فيما مضى ليوغوسلافيا السابقة على الإقليم الشمالي لديها. وتبعا للاتفاق المبرم بين البلدين ستعيد الدولة تسمية نفسها لتصبح مقدونيا الشمالية، ومن المقرر طرح الاتفاق على استفتاء شعبي في 30 سبتمبر (أيلول).
أما صربيا، التي تعتبر من أبرز المرشحين لعضوية الاتحاد الأوروبي، فتواجه مشكلة أكثر صعوبة، ذلك أن الاتحاد الأوروبي يستلزم إقرار «اتفاق شامل ملزم قانونيا لتطبيع العلاقات» مع كوسوفو، باعتبار ذلك شرطا للانضمام إلى الاتحاد. وبالمثل ليس بإمكان كوسوفو المضي قدما من دون مثل هذا الاتفاق.
كانت المحادثات حول تطبيع العلاقات جارية منذ عام 2011، لكنها تقدمت ببطء قاتل، لذلك شجعت فيديريكا موغيريني المسؤولة الأولى عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي قادة البلدين على البحث عن تسوية سياسية. وكانت العقبات أمامهم هائلة. مثلا أشاد فوتشيتش منذ وقت قريب بالرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفياتش الذي توفي عام 2006 أثناء مثوله للمحاكمة عن جرائم الحرب، باعتباره «قائدا عظيما». والواضح أنه وثاتشي، القائد السابق لعصابات مسلحة في كوسوفو، اضطرا إلى كبح مشاعر كراهية متبادلة للحديث معا. وعلى ما يبدو فإن ذكريات الحرب بين كوسوفو وصربيا التي انتهت عام 1999 لا تزال قوية.
تجدر الإشارة إلى أن فترة ولاية موغيريني وكذلك المفوضية الأوروبية الحالية تنتهي العام المقبل. وتأمل موغيريني في الخروج من منصبها بإنجاز كبير. كما أن الغموض المحيط بالمفوضية القادمة وموقفها تجاه مزيد من التوسع في الاتحاد الأوروبي يضفي شعورا بالإلحاحية على المحادثات، لذا فإنه عندما ظهر فوتشيتش وثاتشي معا لمناقشة تبادل محتمل للأراضي بين البلدين لتسوية الصراع القديم، بدا لوهلة أن الأمور ربما تنصلح قريبا، على نحو أشبه بالمعجزات، ومع هذا ربما كان هذا الانطباع سابقا لأوانه.
عندما استفسرت من خبراء في صربيا وكوسوفو عن النقطة التي تقف عندها العملية اليوم، أجابوني بالضحك، وأشاروا إلى أنه بغض النظر عما يناقشه الجانبان فإنه سيبقى بعيدا عن العلن.
أما الفكرة التي يجري تداولها عبر وسائل الإعلام والدوائر الأكاديمية والسياسية فتدور حول تبادل (مقايضة) أراض واقعة شمال نهر إيبار في كوسوفو، ينتمي غالبية سكانها إلى الصرب، بمنطقة وادي بريسيفو في صربيا التي ينتمي غالبية سكانها إلى أصول ألبانية، إلا أن هذه الفكرة تقابل بريبة في بعض الدوائر الأوروبية.
على سبيل المثال، قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إن إعادة ترسيم الحدود من الممكن «أن يعيد فتح كثير من الجراح القديمة بين السكان». أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فقد ركزت على مناعة الحدود في غرب البلقان.
وتدور الحجج الرافضة لإعادة ترسيم الحدود بين البلدين حول عدة أمور، منها الخوف من انطلاق حالة فرار جماعي لإحدى الأقليات من داخل المناطق التي ستجري مقايضتها.
في المقابل، فإن الحجة التي سمعتها من الجانب الكوسوفي بدت أكثر وجاهة، ودارت حول أن الصرب والكوسوفيين الذين بقوا على «الجانب الخطأ» من الحدود بعد الحرب عندما فر مئات الآلاف، وبعد إعلان كوسوفو بشكل انفرادي استقلالها عام 2008، من غير المحتمل أن يتزحزحوا بعد إبرام اتفاق تطبيع للعلاقات.
وفي حديث له معي، قال بيكيم كولاكو رئيس فريق العاملين المعاونين لثاتشي، إنه «يتعين على صربيا من بين أطراف أخرى توفير ضمانات لسلامة أراضي البوسنة والهرسك»، وذلك جزء من اتفاق تسوية مع كوسوفو. وأضاف: «لا أتخيل أن دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي تنضم إلى دولة أخرى، أو تحتل جزءا منها».
من ناحية أخرى، فإنه ليس باستطاعة كرواتيا وألبانيا مسايرة الانفصاليين؛ لأنهما أعضاء في حلف «الناتو».
ومع هذا، فإن هذا السجال حول المقايضة المحتملة للأراضي لا يحمل أهمية تذكر اليوم، بسبب التباين الشديد في الافتراضات الأساسية التي يتحرك على أساسها طرفا المفاوضات.
من جهتهم، يعتقد أبناء كوسوفو داخل وخارج الحكومة أن التسوية النهائية في يد الدول الكبرى التي تدخلت لإنهاء الحرب عام 1998 - 1999.
ويفسر ذلك السبب، دفع ثاتشي وحلفائه فكرة تصحيح وضع الحدود بقوة أكبر من فوتشيتش؛ لأنه بالنسبة لهم يعتبر طرح هذا السيناريو على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الكبيرة مجرد وسيلة من أجل تحقيق غاية.
وقد أخبرني كولاكو أنه «على أي حال فإن كوسوفو لا تسعى بالضرورة نحو تصحيح الحدود، وإنما نسعى إلى كسر حالة الجمود الراهنة ونيل اعتراف من صربيا، ما سوف يؤدي على الفور إلى نيل اعتراف الدول الخمس الأخرى في الاتحاد الأوروبي بكوسوفو. وسيمهد ذلك الطريق أمام عضوية الاتحاد الأوروبي و(الناتو)، وربما الأمم المتحدة. إنها رسالة إلى الدول الكبرى؛ إذا كانت لديها القدرة على دفع صربيا للاعتراف بنا، الآن أو في المستقبل القريب، فنحن سعداء بالانتظار، بدلا من خوض هذه السيناريوهات المختلفة والصعبة».
وينظر غالبية أبناء كوسوفو إلى الاعتراف ببلادهم باعتباره الهدف الأكبر من وراء المحادثات مع صربيا؛ لأن هذه المحادثات ربما تقنع حليفة صربيا (روسيا) بالتخلي عن إعاقة عضوية كوسوفو في الأمم المتحدة، وأيضا إقناع إسبانيا (أكثر الدول الأوروبية معارضة لانضمام كوسوفو إلى الاتحاد) بالتخلي عن هذه المعارضة. تجدر الإشارة إلى أن معارضة إسبانيا نتيجة اعتقادها بأن كوسوفو تشكل منارة للانفصاليين في إقليم كاتالونيا.
في المقابل، فإن غالبية كاسحة من الصرب ممن يرفضون استقلال كوسوفو يرون أن الأهمية الكبرى تتعلق بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأن مقايضة الأراضي لن يغير هذا الوضع.
وإذا كانت عضوية الاتحاد الأوروبي هي النهاية السعيدة المبتغاة من الطرفين، فإن الاحتمال الأكبر أن إقرار تسوية على غرار ما هو شائع داخل الاتحاد الأوروبي سيرضي جميع الأطراف، حتى إن كان على مضض.
-بالاتفاق مع «بلومبرغ»