عبدالرحمن الشبيلي
إعلامي وباحث سعودي
TT

السعودية في يومها الوطني: تاريخٌ كُتب... ولم يُكتب

يُمكن فعليّاً اعتبار حقبة تأسيس الدولة السعودية المعاصرة وتوحيدها 54 عاماً، تُمثّل مدّة حكم مؤسّسها (الملك عبد العزيز) المتوفّى عن 80 عاماً، وأنها تكوّنت من مرحلتين متقاربتين زمنيّاً؛ بدأت الأولى بدخوله الرياض عام 1902 وغلب عليها الكرّ والفرّ حتى توحّدت المكوّنات الرئيسيّة للدولة؛ (وسط نجد 1904 – 1906، والأحساء والقطيف 1913، وحائل 1921، والجنوب 1923، والحجاز 1924 - 1925) حيث دانت تلك الأقاليم وغيرها بالولاء أو بالسياسة والحصار، أو بعمل عسكري، من أبرزه: روضة مهنّا 1906، وجراب 1915، وتربة 1919، والسبلة 1929.
ثم بدأت المرحلة الثانية بتوحيد الكيان عام 1932 حتى وفاته 1953 واتّسمت ببسط الأمن وتثبيت قواعد الحكم، وتشكيل السلطات الدستوريّة الثلاث، وتأسيس العلاقات الخارجيّة، والبحث عن الموارد، وإرساء البنى التحتيّة لتنمية البلاد من الصفر.
والسؤال الذي يطرحه العنوان هو؛ هل كُتب تاريخ هذا الكيان الكبير خلال تلك الحقبة بشكل وافٍ؟ ومَن كَتَبه؟ وما مدى موضوعيّته وشموليّته؟
بدايةً، يعتقد بعض الباحثين أن تاريخ الدولة ومن ضمنه سيرة الملك المؤسّس، بأهمّيته السياسيّة والذاتيّة، ومقدار الإنجاز، وطول فترة الحكم، واصطفاء المعاونين والمستشارين، قد نافس تواريخ معظم الزعماء المعاصرين في الذكر والاهتمام، وأن المؤرّخين السعوديين، ورغم كثرة عددهم ومبادراتهم وغزارة مؤلّفاتهم، قد دوّنوا الأحداث وفق مدرسة سرديّة تقليدية، ولم يُولوا التاريخ في كتاباتهم قراءة بحثيّة معمّقة، وتحليلاً عصريّاً، ربما بسبب قلّة المعلومات التوثيقيّة، أو من حَرَج الوقوع في حساسيات سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة، فخالج هؤلاء المتردّدين وقدامى المسؤولين، شعور بأنهم لن يقدروا على تدوين الأحداث بالشفافيّة التي تتطلّبها موضوعيّة الرواية ويرتضونها لأنفسهم.
وبسبب من ذلك التهيّب ضاعت ثروة، لم يستطع فيها مثقّفون ومؤرّخون ورجالٌ في مواقع المسؤوليّة ممن عاصروا حقبة التأسيس والتوحيد، أن يدوّنوا معلوماتهم ويسجّلوا مذكّراتهم، ومن هؤلاء -وقد أصبح أكثرهم في ذمة التاريخ- أركان الدولة والدواوين العليا والقادة العسكريّون والمبعوثون الدبلوماسيون ورموز المجتمع والقبائل، ومنهم أيضاً أعضاء في الأسرة المالكة، باستثناء الأمراء: سعود بن هذلول، ومساعد بن عبد الرحمن، وطلال بن عبد العزيز، والملك سلمان بن عبد العزيز.
ثمّ ظلّ أكثر المثقّفين المتأخّرين يتحرّجون من تدارك ما فات ومن تدوين ما هو معاصر، لكنّ قلّةً منهم تغلّبت على هذه الناحية بقدرٍ من الجرأة وبمقدار من حذق التعبير، واجتهدت في الحصول على معلومات تكفي لغرض التأليف، حرصاً على كتابة التاريخ السياسي بالطريقة التي يُقرأ بها، وتجاوزاً لمقولة «ما كلُ ما يُعلم يُقال» وتلافياً لتدوينه بطريقة تُغاير الواقع.
ولعل المؤرّخين الراحلين؛ المترجم محمد المانع (ت 1987)، ومحمد حسين زيدان (ت 1992)، وحمد الجاسر (ت 2000)، وعبد العزيز التويجري (ت 2007)، ود. عبد الله العثيمين (ت 2016)، ممن يُحتَسب لهم إقدامهم قدر الاستطاعة على تغطية لمحات من التاريخ السياسي للدولة وسجلّ سيرة مؤسّسها بتجرّد معقول، وعُدّت كتاباتهم مراجع موضوعيّة منافسة لكتابات الآخرين، وإن لم تبلغ الإحاطة المُثلى، وكان العثيمين أشملهم بحكم تخصّصه العلمي.
ولا تفوت في هذا الصدد الإشارة إلى جهد د. عبد الله العسكر (ت 2017) في ترجمة كتاب يورك ديترمان «كتابة التاريخ في السعودية؛ العولمة والدولة في الشرق الأوسط، جداول، بيروت 2015»، وهو كتاب حديث فريد في بابه، يُشخّص تطوّر كتابة التاريخ في السعودية وتنوّع موضوعاتها وتعدّد رواياتها، ويتتبّع جهود المؤرّخين السعوديين منذ القرن الثامن عشر، بفحص إنتاجهم القديم والمتأخّر وتحليله وتقسيم مدارسه؛ المنهج السّلالي ثمّ الإقليمي والطائفي والعشائري.
أعطى عدم تكريس المؤرّخين المحلّيين جهودهم لكتابة التاريخ الوطني بأسلوب تحليليّ، الفرصة لآخرين غيرهم أن يقتنصوها، وينهضوا بمهمة ملء فراغها، فكما قيل «عندما لا يتحدّث المجتمع عن تاريخه بطريقة أمثل يُفسح المجال للآخرين للتحدث عنه بالطريقة التي يشاءون» فكان أن احتفى القرّاء بما أصدره شكيب أرسلان وكشك ودوغوري وميكوش وديكسون وميشان وهولدن وليسي واسيلييف من كتابات تاريخيّة موسّعة، وإن كانت مؤلّفات بعضهم -على جودتها- لا تخلو من أهواء ذهنيّة مسبقة جاءت من خلفيّاتهم الثقافيّة ومن بُعدهم عن البلاد، لكن أسلوبهم التحليلي في كتابة التاريخ اعتمد استنباط النتائج من الأسباب، ودراسة الإنسان من خلال الزمان والمكان.
من جانب آخر، امتدح العلّامة حمد الجاسر البيبليوغرافيا التي أصدرها هاينز فيليب (في 450 ص) عن المؤلّفات التاريخيّة الصادرة عن السعودية 1984، وأنصف كتابات عبد الله فيلبي وأمين الريحاني وحافظ وهبة وخير الدين الزركلي وفؤاد حمزة، ممن طالت إقامتهم بالبلاد وقويت صلتهم بمجتمعها وبمسؤوليها، وعَدّ فيلبي أغزر مَن كتب عنها وأكثرهم تنوّعاً وعُمقاً في البحث، ورأى أن أوثق من تصدّى لتاريخ السعودية منهم هما فيلبي والريحاني، فلقد رافقا أركان الدولة وجالساهم ونقلا عنهم، وأن من المؤلّفات ما هو أصيل مثل كتب وهبة الذي أقام طويلاً في السعودية وعمل فيها، أو أصيل مجموع كمؤلّف الزركلي، الذي وإن لم يعايش السعوديين مُدّة كافية في أثناء إقامته وعمله، لكنه جمع ونقل في كتابه «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز 1985» كثيراً من جوانب التاريخ.
وانتقد الجاسر بعض كتابات ديكسون وميكوش وميشان وآرمسترونغ وأمثالهم، الذين زاد المترجمون العرب من تحريف ما كتبوه في أسماء الأعلام والقبائل والأمكنة، وعاب ميل بعض المؤرّخين العرب نحو الإطراء والمبالغة في المديح ضمن كتاباتهم التاريخيّة، وقال إن بعض من تناول التاريخ الوطني من الدارسين المحلّيين في أطروحات الدراسات العليا، طرقوا فيها موضوعات محدّدة من أحداث التأسيس والتوحيد، وغلب عليهم الاعتماد على نقولات من كتابات سابقيهم دون ابتكار.
ومن المفهوم أن تدويناً تحليليّاً بهذا الحجم الموسوعي النوعي الذي يعنيه العنوان، لا يقوم به في الغالب فرد واحد، بل يتطلّب جهداً مشتركاً من متخصّصين يتوافقون على المنهج ويتقاسمون بنوده، وفي الذهن في هذا السياق مشروع المعجم الجغرافي الذي قام عليه كبار الجغرافيين في السبعينات والثمانينات، وصدر في مجلّدات بإشراف الجاسر ومشاركته، وكان ينوي تبنّي معجم تاريخي مماثل وفق المنهج التحليلي الشامل نفسه، لكن تقدّمه في العمر حال دون ذلك.
أما المؤرّخون العرب الذين كتبوا عن تلك الحقبة، وربما باستثناء من ذُكروا، فإن المرء لا يطمئنّ كثيراً لكتبهم، بسبب ما غَشي أقلام بعضهم من التزلّف والمبالغة، ومن تكرارٍ لا يحمل جديداً، ولذلك فإن إنتاجهم هذا تبخّر بوفاتهم، أو بانتهاء العهود السياسيّة التي كُتبت فيها.
وفي مجال تدوين سيَر الروّاد المؤسّسين، فهو على الرغم مما سُجّل من تراجم بجهود فرديّة ورسميّة، فإن هناك قصوراً فيه بالمنهج والشمول، بقيت معه أسماء مئات منهم مجهولة على مستوى الكيان، وعلى نطاق الأقاليم، حتى صار العهد الذهني بالرموز يتقادم بمرور الأعوام، وبدأ وهج بعض الخالدين يتضاءل بالتدريج، وأصبحت الذكريات عنهم تنحسر شيئاً فشيئاً، وما لم تُواصل مراكز التوثيق نشاط التدوين، فإن المعلومات قد تختفي عن الأجيال، ولن يكون بمقدور النشء استيعاب إسهامات الروّاد المؤسّسين.
والشعر فصيحُه وعاميّه كنز من التاريخ، يجري حاليّاً تنقيحه من قِبَل لجنة علميّة، لحفظ شعر العثيمين (الشاعر) والفرج والغزّاوي والبليهد والزركلي وشوقي الأيّوبي والعوني وغيرهم، والمأمول أن تنجح اللجنة في تصفية المبالغات التي تشوّه حقائقه، فالشعر كثيراً ما يقوم على الإطراء، لكنه يظلّ عند العرب مصدراً مهمّاً للتاريخ ضمن مصادر التدوين الأخرى.
وبعد؛
يدعو موضوع هذا المقال، لقيام مركز متخصّص للبحوث والدراسات مستقل أو ضمن إطار المركز التاريخي (دارة الملك عبد العزيز) لتأليف موسوعة تستقرئُ جميع جوانب الموضوع من منظور متكامل، وتستعين برأي الموثّقين والمؤرّخين الثقات، وبتجارب الآخرين في هذا الشأن، وترصد ما غطّته الرسائل والندوات العلميّة الجامعيّة، لاستكشاف الزوايا المُغفلة من تاريخ نشأة الدولة، وتحديد أسلوب معالجتها، كي يُكتب التاريخ الشامل المأمول وتُعاد صياغة فصول منه أهملها المؤرّخون أو شوّهوها.
فمن يقرأ في قصة تأسيس الدولة، وفي تصدّع الكيانات الهشّة المحيطة، وفي خروج القوى المتنافسة من الجزيرة العربيّة، وفي لمّ شتات صحاري بحجم قارة، يجد أن توحيدها -مع ضعف الإمكانات حينها- أشبه بالأسطورة، بالإضافة إلى أن القائد الذي وحّد هذه الجزيرة، أسَر شعبه بالمحبّة، وساد وطنه بالحنكة والمعروف، ووطّد علاقاته بالدهاء السياسي، ولم يكن مبعث نبوغه معاهد أو شهادات، لكنه قرأ التاريخ من صغره، وأدرك التوازنات من بصيرته... وإن مناسبة اليوم الوطني لأي دولة، فرصة للتفكّر بالتاريخ، وتذكير الأجيال بدروسه وبعِبره، ولاستيفاء الزوايا الناقصة في تدوينه.