داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

البصرة... جريمة لا تُقيد ضد مجهول

خدعوك فقالوا إن الحكومة العراقية لم تخصص في ميزانياتها المليارية السنوية منذ الاحتلال الأميركي حتى اليوم، أرقاما هائلة لإعادة إعمار العراق وبناء مشروعات جديدة في البنى التحتية المنهارة.
نعم، الحكومة فعلت ذلك، لكن العبرة ليست في التخصيصات، وإنما في التنفيذات. أين ذهبت تلك المليارات؟ من استباحها؟ وكيف؟ ولماذا ظلت البصرة وغير البصرة، حتى العاصمة بغداد، تشكو نقصا فادحا دائما في الكهرباء والمياه والصرف الصحي والخدمات، من المستشفيات والتعليم والإسكان إلى الزراعة والصناعة والتجارة والنقل، حتى وصلنا إلى فشل مفضوح في سوء الحكم والإدارة؟
لذلك نقول إن حلقات الفساد متصلة ومترابطة ومتجانسة حتى أصبحت التنمية متوقفة في هذا البلد العريق، الذي خاض حروبا متصلة على مدى عقود من دون أن يجد أي بارقة أمل في حياة أفضل. ووصل العراقيون إلى الاعتراف بأن دولتهم فاشلة وفاسدة بعد أن عاد غول الأمية والجهل يلتهم قرونا من المعرفة والحضارة والتنوير. وإلا كيف نُفسر أن بلدا ثريا مثل العراق الخصيب يلجأ إلى الاستجداء في مؤتمرات إقليمية ودولية لإعادة إعمار ما دمره تنظيم داعش الإرهابي؟
نحن نفهم، ونتفهم، أن تطلب السلطة الفلسطينية من العالم تمويل إعادة إعمار غزة والمدن والقرى الفلسطينية المدمرة. ونفهم، ونتفهم أن النظام السوري يدعو إلى تمويل عملية إعادة إعمار المدن السورية التي دمرها طرفا الحرب الأهلية طوال 6 سنوات دامية. لكن لا نفهم، ولا نتفهم، بل نخجل من أن العراق ذا الميزانية المليارية يمدّ يده إلى دول العالم ليستجدي قروضا ومنحا سرعان ما تتحول إلى حقائب الفاسدين والمفسدين الذين لا يشبعون.
المسألة ليست تخصيصات مالية يتم العبث بها والسطو عليها على أيدي لصوص الأجهزة التنفيذية والبرلمانية جهارا نهاراً، لكنها نظام الحكم الذي يسمح بالفساد ويتسامح مع المفسدين. وما النتيجة؟ النتيجة هي ما نراه في البصرة اليوم، وقبلها في الموصل وتكريت والفلوجة والرمادي والناصرية حتى كربلاء والنجف.
لسنا في معرض تسمية أشخاص ولا فضح مؤهلات مزورة وجدت في مناخ الاحتلال الأميركي المغرور والمتعجرف والمرتبك، ثم الاحتلال الإيراني المكشوف والجاهل والحاقد، ما يسمح بأن يتحول العراق إلى «حارة كلمن إيدو إلو» كما وصفها الكاتب السوري الساخر الراحل محمد الماغوط منذ 4 عقود. الوضع الآن ليس «كلمن إيدو إلو» فقط، وإنما «كلمن رجلو إلو» أيضا وأيضا وأيضاً.
لا أحد يعرف بالضبط أين ذهبت مليارات الدولارات التي جناها العراق من عائدات النفط في ظل الاحتلال الأميركي. لقد تبخرت فعلاً. فلا أثر لها ولا قيود مالية ولا سجلات ولا وصولات.
في بداية الاحتلال دخل مسؤولون عراقيون إلى مطار بغداد على طريقة النشالين، ونشلوا ملايين الدولارات نقداً، وقيدت الحادثة ضد مجهول! وتكررت الحادثة، سبحان الله، مرات أخرى، وواحدة منها على الأقل في حضور وزير المالية العراقي الأسبق وعلمه. والتزمت الحكومات العراقية المتعاقبة خلال سنوات الاحتلال الصمت عما حدث.
إلا أن المفتش العام الأميركي السابق ستوارت بوين قرر كشف المستور قبيل جلاء المحتلين، وقال إنه يتتبع الملايين وربما المليارات من الدولارات التي سرقها اللصوص المحليون الذين كانوا يحكمون العراق، وليس اللصوص الدوليون الذين يتحكمون فيهم، ولديه دلائل وشواهد أن أموالا طائلة سُرقت من العراق. وحين سُئل في مقابلة كم الرقم؟ قال: «من المستحيل معرفة الأرقام ولكني أعرف من حديثي مع العراقيين وخلال رحلاتي إلى العراق، وقد ذهبت إلى هناك 30 مرة، إن مئات الملايين، إن لم تكن المليارات، من أموال تنمية العراق سُرقت من قبل مسؤولين كبار في الحكومة العراقية لمصالحهم الشخصية الخاصة».
ولا تشمل مهمة المفتش العام تتبع عشرات المليارات التي أرسلت من البنك الفيدرالي الأميركي في نيويورك إلى الحكومة العراقية، بعد ما وصف بتسلم السلطة في عام 2004 أرصدة عراقية كانت محجوزة ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء، ثم زعم بول بريمر السفير الأميركي الأسبق في بغداد أن 9 مليارات دولار منها تمت سرقتها من قبل مجهولين!
ويقول المفتش السابق إنه يأمل أن تتعلم الولايات المتحدة درسا حسابيا أساسيا من تجربة العراق، هو أن سكب النقد السائل بمئات الملايين من الدولارات السائلة في منطقة حرب أمر غبي، لأنه سوف يستخرج النزعات المنحطة في بعض الناس، ما يؤدي بهم إلى ارتكاب السرقة.
لقد حدث هذا الأمر في عام 2004 حين كانت موارد العراق النفطية والدولية تحت تصرف سلطة الاحتلال حصرياً. وللقارئ أن يتصور ماذا حدث بعد أن تمت مسرحية نقل السلطة والسيادة إلى السياسيين العراقيين القادمين مع دبابات الاحتلال، حيث ظل العراق لأكثر من 5 سنوات يُصدّر النفط إلى الخارج بلا عدادات ولا سجلات، وكأنه يُصدّر «بطيخاً»! المشهد الآن، سجلات حسابية مفقودة أو محروقة، ومليارات تبخرت على طريقة سلسلة أفلام «أوشين 11» الأميركية... والفاعل مجهول... لكنه معروف!
بعد عاصفة الأيام الأخيرة، فإن المتربصين برئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي، وأبرزهم حليفا إيران نوري المالكي وهادي العامري، وجدوا في غضب البصرة فرصة العمر الذهبية للإطاحة بالعبادي والكتلة البرلمانية الكبرى التي تضم مقتدى الصدر وعمار الحكيم وإياد علاوي وحيدر العبادي وأعدادا من العلمانيين واليساريين.
ها هي عجلة لعبة «الروليت» تدور مرة أخرى لتحديد الرقم واللون الفائز برئاسة الوزراء، بعد أن تقلصت فرص العبادي، وارتفعت فرص غيره من المقامرين بحاضر ومستقبل العراق. أمامنا، في أغلب الظن 4 سنوات عجاف أخرى.