أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

«الست» والعمل التطوعي

نبدأ من الست..
و"الست"، هكذا دون أي أدوات أخرى للتعريف أو التنويه، نستخدمها في مصر - وبشكل موسع في العالم العربي - للدلالة على سيدة الغناء العربي أم كلثوم. ولا يحتاج جيلي ومن سبقه، وربما من بعده بقليل لمزيد من الشرح.
بشكل شخصي، أعشق أم كلثوم، وتربّت أذني على صوتها.. على حسن اختيارها لأفضل الكلمات وأشجى الألحان، وتحمل اغنياتها باختلافها ذكريات وارتباطات في أذهان عشاق فنها، لدرجة ان سماع أغنية معينة كثيرا ما يستدعي حزمات كاملة من الذكريات الجميلة لكل هواة أم كلثوم.
واسمحوا لي بملحوظة هامشية، والخروج قليلا عن النص؛ كوني شخصا مشاكسا "ينكش" دائما عما وراء الأمور البسيطة.. حيث استوقفتني للحظة لفظة "الست" في حد ذاتها، والتي تستخدم في العامية المصرية للدلالة على السيدة.
حاولت البحث عن مصدر الكلمة، ووجدت عدة احتمالات. أولها – وربما أقربها إلى الصحة - أنها فقط تحوير لكلمة فصحى.. سيدات التي صارت "ستات"، فكأن المفردة ست، للتفرقة عن ستة للترقيم.
لكن دماغي المشاغب رفض أن يستثني عدة تفسيرات أخرى، منها أنها ربما تكون اشتقاقا من لفظة Cette الفرانكوفونية، والتي تعني "تلك".. وبخاصة في مجتمع غلب عليه في بعض الأوقات تحجيم دور المرأة. كما أنها قد تكون مستنبطة من لفظ "ست" Set، وهو رمز الشر عند قداماء المصريين.. الذي قتل أخاه أوزوريس وانتقم منه لاحقا حورس بن أوزوريس، كما هو معروف في العصر الحديث عن الأسطورة الفرعونية الشهيرة. لكن ست في واقع الأمر كان رمزا للقوة، وكان المتحكم في العواصف والصحارى، مما يعد رمزا مزدوجا ذكيا لوصف المرأة في حال صح أن الاشتقاق جاء منها.. إذ أنه يحمل معنيي القدح والقذع في آن واحد.
تفسير آخر يقول إن اللفظة ربما هي وصف للجهات الست الأصلية المعروفة (شمال، جنوب، شرق، غرب، أعلى، أسفل)، دلالة عن الإحاطة التامة، كمثل الجنين في بطن أمه، ولو صح هذا التفسير فإنه يكون تكريما للمرأة بكل الأحوال، كونها كل شيء في حياة الرجل.
نعود إلى العنوان والبداية.. هناك علاقة أكيدة بين كوكب الشرق والعمل الأهلي والتطوعي، تمثلت في كثير من الأعمال، لعل أبرزها دورها في دعم المجهود الحربي إبان فترة الحروب العربية مع إسرائيل، ورحلتها الشهيرة في دول المشرق والمغرب لجمع التبرعات.
لكن المقصود هنا شيء مختلف.. إذ انني وللمرة الأولى منذ نشأت، أسمع أم كلثوم بطريقة مختلفة تماما.. استمع إلى حفلات لم أسمعها من قبل، وأسمع صوتها بنقاء كشف عن أماكن لم تستكشفها أذني من قبل في حنجرتها، ولا أعتقد أن أحدا من جيلي سمعها.. ربما هي فقط خبرة سنحت للجيل السابق، والذي أتيح له سماع "الست" تغني مباشرة من على المسرح.
الفضل في ذلك يعود إلى موقع إذاعي على الانترنت أطلق حديثا تحت اسم راديو الست www.elsetfm.com، والذي يقوم بإذاعة أغنيات أم كلثوم بشكل متواصل على مدار الساعة، دون أي فواصل إعلانية أو إخبارية.
الحقيقة انني شكرت الظروف التي جعلتني اتعرف بالصدفة إلى هذا الموقع، كما اندهشت متسائلا عن كيفية احتجاب تلك التسجيلات النادرة الرائعة عن الجمهور طيلة هذه السنوات الماضية، التي كنا نستمع خلالها إلى تسجيلات مشوشة ومشوهة للست دون أن ندري. كما لفتتني الحقيقة السابقة إلى حقيقة أخرى، وهي كم كانت أم كلثوم عظيمة بحق.. فرغم تلك التسجيلات السيئة إلا أنها تظل دائما متألقة.
من يسمع الإذاعة يدرك على الفور أن وراءها جهد دؤوب وفريق محب ومخلص لعمله.. فهي عمل تطوعي بحت، وربما هي أحد الأمثلة القليلة في وطننا العربي على معنى العمل التطوعي الحقيقي كما يمارس في الغرب، انضباط تام وتفان دون مردود مادي.
لا أعرف أحدا من العاملين، لكن أذني تخبرني عن احترافية العمل. وفي ذات الوقت الأخبار المتناثرة هنا وهناك عن هؤلاء الشباب تؤكد أنهم بالفعل يعملون بجهد ذاتي خالص.
طبعا لا أنسى ان أشير إلى موقع آخر توأم لراديو الست، أو "الإذاعة الأم"، وهو راديو غرامافون www.gramafoon.com، الذي انطلق منذ أكثر من عامين، ويوفر مزيجا أوسع نطاقا من الموسيقى الشرقية والغربية القديمة والحديثة بدرجة نقاء عالية، والأهم الاختيارات الرفيعة.
وعلى غرار راديو الست، تبث غرامافون تسجيلات نادرة لحفلات أو جلسات أو حتى بروفات ألحان لعمالقة من أمثال محمد عبد الوهاب وعبدالحليم حافظ ووردة ونجاة وصباح فخري، وصولا إلى أبرز مطربي العصر مثل محمد منير وعمرو دياب وزياد رحباني وغيرهم.
كمغترب لا أملك ترف الاستماع إلى إذاعات محلية عربية في السيارة أو المنزل أو الطريق. تعد الإذاعتان طوق نجاة في سبيل الاحتفاظ بروح الهوية.. وكمستمع مخلص للفن، وكون هواة الفن يحبون المشاركة، أنصح كل من يقرأ هذه المدونة بزيارة الموقعين.. والدعاء لي إذا راقكم الاختيار.