إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

حلاوة روح الكتاب

إنها النبوءة التي تأتي الوقائع لتؤكد كذبها مرّة تلو أخرى. تسمعهم يقولون لك إن الكتاب يحتضر، وإن القراء باتوا أندر من عظم الهدهد، ثم تنام وتصحو وتدخل مكتبة فتجد عشرات العناوين الجديدة، كل يوم، تزدهر على الرفوف. والكتاب المقصود هنا هو ذلك المطبوع الذي يمكنك أن تلمسه وتقلبّه وتتصفح فصوله وتشمّ رائحة ورقه. وقبل أن يصل إليك، تكون الكثير من الأيدي قد اشتغلت عليه وراجعته وصححته وجمعته ورزمته ووزعته. أما الكتاب الإلكتروني، فليبحث عن أي تسمية أخرى غير هذي. هل يخطر ببالك أن تبلّ باطن إبهامك لتقلب الصفحة؟
تقرأ نعي الكتاب وتسأل عن مكان الجنازة وبيت العزاء فلا تجد جواباً. إنه حي يتنفّس، تقام له المعارض وتفرش له البسطات وتتداوله الأيدي وترنو له العيون. هل هي الصحوة التي تسبق الموت؟ حلاوة الروح التي تطرد عزرائيل وتتعوّذ منه؟ تطالعك إعلانات عن قرب معرض عمّان للكتاب، وعن الموعد السنوي المماثل في بيروت. حتى إذا انتهت السنة ودخلنا سنة جديدة، ترى القاهرة وقد افتتحت ملتقاها الذي تحوّل إلى مهرجان يحتفي بالكتاب وبغيره، يقصده أدباء العربية من كل الديار.
في الأسبوع الماضي، احتفلت بغداد بفعالية جميلة عنوانها: «أنا عراقي... أنا أقرأ». وهي تحيلنا إلى تلك الفكرة القديمة بأن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ. اليوم أضحت كل عواصمنا ومدننا الكبيرة تكتب وتطبع، وما على المواطن سوى أن يهرب من واقعه ويختبئ بين دفتي كتاب. وهناك من ينتظر انعقاد معارض الكتب وكأنها مواعيد غرامية.
هناك في العراق مطبعي دؤوب اسمه ستار علي، يجوب مدن وطنه لكي يحث الشباب على المطالعة. يأخذ لهم الكتب ويدعوهم إلى مهرجانات القراءة في الحدائق العامة والساحات. وهناك في تونس روائي متحمس اسمه كمال الرياحي، يجمع الكتب من المكتبات والمتبرعين، ويقصد القرى لكي يؤسس مكتبات في مدارسها. وهناك في الإمارات نساء مرفهات أسسن نوادي للقراءة تشترك فيها مئات السيدات، يحضرن مع بناتهن وفي يد كل منهن كتاب قرأته وجاءت لتبدي رأيها فيه.
صدر حديثاً كتاب بعنوان «أن تقرأ»، تأليف برنار بيفو وزوجته سيسيل. وللتعريف بالمؤلف يمكن القول إنه أبو القراءة في فرنسا، ومعركته للدفاع عن الكتب هي أم المعارك. وقد اكتسب الرجل شهرته من ساعة تلفزيونية أسبوعية كان يعرض فيها الكتب الجديدة ويحاور مؤلفيها. دعْكَ من المسلسل البوليسي أو برنامج الشيف فلان أو «مَن يربح المليون». نجح بيفو، ببرنامجه الثقافي الراقي، في أن يسحب البساط من تحت أقدام الجميع، وأن يجمع حول طاولته مشاهدين من كل الفئات الاجتماعية والمشارب والأجناس، وأجمع هذه الأخيرة لأن فرنسا لم يعد فيها جنسان فحسب.
ما الذي يريد عاشق القراءة أن يوصي به بعد أن تجاوز الثمانين؟ يقول بيفو: «إن كثيراً من السياسيين والمديرين ورؤساء المؤسسات وأصحاب المناصب العليا، لا يقرأون سوى ما يتعلق بوظائفهم. الأدب؟ إنهم يعتبرونه مضيعة للوقت. الروايات؟ يقولون إنها تناسب النساء. يا لهم من مساكين، أولئك الذين يعيشون في عالم مغلق يعرفون بروتوكولاته ويجهلون كل ما يتعلق بتطور سلوكيات الشعب الذي يتولون أمره. إن الروايات ستعلمهم الكثير من الأشياء عن خفايا العقليات، وعن أسباب التقلبات والولاءات، وعن تلك الكبرياءات الصغيرة والأحزان المكتومة، وعن البازار الكبير لتجارة الأجساد والأرواح. وبالتالي، فإنهم حين يقارنون ويتفكرون، سيتعلمون الكثير عن أنفسهم».