لؤي عبد الإله
كاتب عراقي مقيم في لندن
TT

شهرزاد وكباش الكتلتين الكبريين

تحتل حكاية حسن البصري (أو الشاطر حسن) جزءاً كبيراً من صفحات ألف ليلة وليلة، ومن أهم أحداثها مغامرة البطل البصري، حين نجح في الوصول إلى جزائر «واق الواق»، التي يشبه وصولها آنذاك الهبوط على سطح المريخ للمصاعب الجغرافية والبشرية التي تواجهه. وسبب المغامرة إعادة زوجته التي هربت من البيت مع طفليهما وعادت إلى أرض أبيها ملك ملوك تلك الجزر النائية الغامضة.
بعد اقترابه من الفشل وبلوغه نقطة قريبة من القبض عليه وقتله على يد الملكة نور الهدى (أخت زوجته)، يتدخل القدر، ودهاء حسن لتغيير مسار الأحداث. في ذلك المكان المعزول الموحش رأى حسن صبيين يتضاربان وبين أيديهما قضيب من النحاس وطاقية من الأدم، وإذ ينجح الشاطر في فصلهما عن بعض، يسألهما عن سبب خصامهما.
الطاقية والقضيب النحاسي صنعهما والدهما الساحر، مع الأولى يستطيع حاملها أن يختفي إن وضعها على رأسه، ومع الثاني يستطيع من يضربه أن يستجلب كل العفاريت لتنفيذ كل ما يريده. أي إن كلتا الأداتين تمنح سلطة خارقة للمألوف لمالكها.
أمام حاجته الماسة إلى القضيب والطاقية معاً لتحقيق مآربه، اقترح عليهما أن يحكّم بينهما. «أبقيا القطعتين السحريتين معي، وسأرمي حجراً، فمن يتمكن من الوصول إليه وجلبه لي يأخذ القضيب والآخر يأخذ الطاقية». وحين نفذا ما اقترحه الشاطر حسن وعاد أحدهما وبيده الحجر لم يجد أي أثر له. وبفضل هاتين القطعتين السحريتين تمكن بطل الحكاية من هزم الملكة واسترجاع زوجته وطفليه.
والآن تتكرر الحكاية الخرافية على أرض الواقع في أرض السواد: على ضوء انتخابات تشريعية شارك فيها حسب الأرقام الرسمية ما يقرب من 40 في المائة من المواطنين الذين يحق لهم التصويت، أعلِن أخيراً تشكل كتلتين متنافستين من النواب المنتخَبين، وإذا افترضنا أن منصب رئاسة الحكومة يشابه الحصول على القضيب النحاسي، الذي يمنحك سلطة كبيرة في إدارة البلد، ومنصب رئاسة المعارضة يشبه كثيراً الحصول على الطاقية التي تمكن حاملها من مراقبة عمل الحكومة والكشف عن التجاوزات غير الشرعية ونشاطات الفساد الإدارية وغير الإدارية.
يجب الاعتراف أولاً بأن هذه الانتخابات ونتائجها حققت تجاوزاً للخطوط الطائفية والعرقية، التي تميزت بها الانتخابات العراقية الثلاثة السابقة، إذ ساد مبدأ مشاركة الجميع في إدارة الدولة على أساس مبدأ المحاصصة الطائفي - العرقي - الإثني، وهذا ما سمح بغياب أي معارضة تراقب عمل الحكومة وقراراتها، لذلك تحول النواب المنتَخَبون من خدمة مصالح أولئك الذين انتخبوهم إلى خدمة مصالحهم ومصالح عوائلهم وأقاربهم.
الآن تجد هاتان الكتلتان، التي تدعي كل منهما أنها الأكبر، فرصة ذهبية لأخذ الطاقية: أداء دور المعارضة الحقيقية لأول مرة في تاريخ العراق السياسي؛ وترك القضيب النحاسي: إدارة الدولة، لما يتطلبه العراق من جهود استثنائية للارتفاع درجة واحدة إلى أعلى قاع الخراب، الذي بلغه العراق ابتداء من أوائل التسعينات (بداية زمن العقوبات الدولية سيئة الصيت)، ومروراً بفترة ما بعد الغزو الأميركي وسقوط النظام عام 2003. ولو طُلب مني التحكيم فسأقترح «الطاقية» للكتلة التي يتزعمها رئيس الوزراء الحالي الدكتور حيدر العبادي، أي الانضمام إلى المعارضة والعمل الدؤوب على تقييم نشاطات الحكومة سلباً وإيجاباً كل أسبوع، كما هو الحال في بلدان الغرب، أما القضيب النحاسي فسأقترحه للكتلة الأخرى التي تشكلت على عجل خلال الأسابيع الأخيرة، على الرغم من مشاعر النقمة الشعبية على بعض وجوهها لدورهم في تضييع مبالغ ضخمة من مدخولات العراق النفطية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، وحالة التدهور المتزايدة في شتى قطاعات الخدمات الأساسية للعراقيين عما كانت عليه عام 2003.
مع ذلك، فأنا مقتنع بأن كل أعمال النهب للمال العام واستشراء الفساد إلى درجات لم يصلها أي بلد في العالم خلال القرنين السابق والحالي، نجمت عن مبدأ المحاصصة الطائفية - العرقية الذي حوّل الوزارات إلى خنادق طائفية – عرقية، عبْرها يتم استدرار البقرة الحلوب التي اسمها ميزانية العراق حتى الرمق الأخير.
وإذا كانت الانتخابات الأخيرة قد وفرت الفرصة للخروج من قمقم الطائفية، وأظهرت بروز المشاعر الوطنية من جديد على حساب المشاعر الطائفية أو العرقية لدى قطاعات واسعة من العراقيين، فإن الفرصة لظهور معارضة سياسية برلمانية في العراق توفر الفرصة لاختبار حقيقي للسياسيين الذين سيتحملون مسؤولية إدارة دفة الدولة خلال السنوات الأربع القادمة.
مع ذلك هناك نقطتان مترابطتان، وربما هما اللتان تعرقلان قبول كتلة العبادي - الصدر - علاوي - الحكيم بدور المعارض، لأن مؤسسات الدولة الأمنية في العراق ما زالت غضة، وإذا أعطيت كتلة الفياض - المالكي - العامري القضيب النحاسي (الحكومة ورئاستها)، فليس هناك أي ضمان بألا تستخدم أجهزة الأمن نفسها ضد كتلة المعارض. الاغتيالات السياسية في زمن السيد المالكي للمعارضين السلميين وقعت، ولعل مقتل الصحافي هادي المهدي يوم 8 سبتمبر (أيلول) 2011 في فترة حكمه تذكير بما يمكن القيام به ضد أي معارضة برلمانية، وللعلم لم يجرِ أي تحقيق قضائي نزيه في جريمة قتله.
من جانب آخر إذا قبلت الكتلة الثانية بدور المعارضة فإن أبرز وجوهها الذين تقلدوا مناصب سيادية بارزة في الحكومات الثلاث السابقة يخشون من المحاسبة الإدارية والقضائية لهم إن هم وافقوا على منح الكتلة الأولى القضيب النحاسي (دفة الحكم).
إذن، فهناك أزمة ثقة بين الكتلتين، مثلما هو الحال مع الصبيين الأخوين اللذين ورثا عن أبيهما هاتين التحفتين القادرتين على تحويل الأرض الخراب حولهما إلى جنة، أو إلى جحيم. فلو أنهما اتفقا على مبدأ تداول القضيب النحاسي والطاقية السحرية لاستفاد كلاهما بدلاً من أن يأتي شخص غريب مثل حسن البصري فيخدعهما كليهما ويسرق القطعتين منهما بواسطة الحيلة.
وإذا قارنا حالة الكتلتين «الكبريين» اللتين أفرزتهما الانتخابات التشريعية الأخيرة في العراق بحكاية شهرزاد الأطول في كتاب ألف ليلة وليلة، نكتشف أن الولايات المتحدة وإيران هما اللتان تؤديان دور الحكَم (حسن الشاطر)، وكلتاهما تلعب وفق مبدأ واحد؛ إما كل شيء أو لا شيء، أي إما القضيب النحاسي والطاقية أو لا شيء. أما دور الصبيين «الساذجين» فهما الكتلتان العراقيتان «الكبريان».
هناك خوف من عودة حكومة الوحدة الوطنية، التي تضم الكتلتين في تأسيس الحكومة الجديدة، لأن ذلك يعني عودة المحاصصة الطائفية - الإثنية من الشباك بعد طردها من الباب عبر مشاركة الـ40 في المائة من العراقيين البالغين في الانتخابات، واختيارهم برامج سياسية وممثلين عنها خارج الإطار الطائفي (ولحد ما الإطار الإثني - العرقي).
بصيغة أخرى، ظهور البرلمان العراقي مرة أخرى من دون وجود معارضة فعالة تمتلك حكومة ظل، وقادرة على مواجهة الحكومة الحقيقية بشكل منتظم كل أسبوع عبر المساءلة والجدل معها، سيعمق الخراب والفساد المستشريين في العراق، ويزيد من إمكانية انفجار الوضع السياسي إلى ما لا تحمد عقباه.
وهذا المبدأ هو الجوهر الحقيقي للديمقراطية الليبرالية مع مبدأي التعددية وتداول السلطة، وفق ما تقرره أغلبية الناخبين.
لعل اقتراحي هذا قابل للتنفيذ خلال الفترة الانتخابية القادمة: أول سنتين يستمر فيهما الدكتور العبادي بتقلد منصب رئاسة الحكومة، ويشكل وزارة حِرَفية بالمعنى الدقيق من كل الأطياف السياسية وغير السياسية، والعراق بلد غني بكل كوادره (خلال الفترة التي أعقبت مطاردة اليسار العراقي ابتداء من عام 1979 مع وصول صدام حسين إلى الحكم تمكنت الكوادر العراقية التي هربت من العراق من تغطية جزء كبير من احتياجات ثلاثة بلدان عربية أو أكثر من بينها الجزائر واليمن الديمقراطية وليبيا)، مع ضمان عدم محاسبة أولئك المسؤولين السابقين في الحكومات السابقة، التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وتلعب قائمة الفياض - المالكي - العامري دور المعارضة داخل البرلمان العراقي، ثم يتم التداول بين الكتلتين في السنتين الأخيرتين، ولعل هذه الطريقة ستمكّن الصبيين اليتيمين (الكتلتين «الكبريين») من الاحتفاظ بالقضيب النحاسي والطاقية لنفسيهما بدلاً من أن يأخذهما حسن الشاطر مرة أخرى. كذلك فإنها فرصة ذهبية للتدرب على دور المعارضة البناءة، التي ظل العراق يفتقدها منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921 وحتى يومنا هذا.