د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

البطولة للفكرة والمعنى والمشروع

كالعادة قرأت بشغف كبير مقالة كاتبنا المبدع سمير عطا الله التي نُشرت أول من أمس والتي تناول فيها فكرة دقيقة ومهمة جداً لخصها بشكل بليغ فيما سماه: بطولة الخسارة. ولقد أصاب في اختيار المثالين اللذين يعكسان الرسالة، ومعنى أن ينحت شخص ما بطولة تُسجلها بالحبر الذهبي دفاتر التاريخ، والحال أن هذه البطولة تعلقت بخسارة فادحة بالمعنيين المادي والرمزي. فليس هناك أكثر تأكيداً لمثل هذه الفكرة أكثر من تجربتي رجلين مهمين في تاريخ مصر المعاصر، هما جمال عبد الناصر وأنور السادات. بل إن فكرة المقال اكتسبت وضوحها وقوتها من ضرب هذين المثالين المعبرين جداً.
من جهتي، ومن فرط تفاعلي مع فكرة أستاذنا سمير عطا الله المفعمة بالضوء، أردت البناء عليها والحفر في منطقة هذه الفكرة؛ لأنها تبدو للوهلة الأولى وكأنها مفارقة، في حين أن تأملها يجعلنا ندرك أن تاريخ البطولات في الذاكرة الإنسانية كثيراً ما كان مرتبطاً بالخسارة، وذلك من منطلق أن معنى البطولة نفسه ينطوي على مضمون مثالي، وأن الأبطال في الحياة هم كائنات تحمل ملامح خاصة استثنائية، وعادة ما يحاول الواقع قضم فكرة البطولة وقهرها.
ما نلاحظه اليوم أن فكرة البطولة قد تراجعت. وكأن الواقع الجديد لا يتسع للبطولات. ما كنا نسميه بالأمس بطولة أصبح اليوم يسمى جنوناً وتهوراً وقلة فهم لتفاصيل اللحظة.
خسرنا سحر الفكرة. وهي خسارة باتت تشمل أفكاراً كثيرة. انجرف عالم اليوم نحو الواقعي وما هو كائن والآني، وأدار ظهره عن المثالي وعما يجب أن يكون.
نكاد ننسى أن الفكرة هي الأصل، والمعنى هو الأصل، والمشروع هو الشجرة التي تكبر كلّما كبرت الفكرة واتسع المعنى. لذلك؛ فإن المجتمعات متسامحة مع أبطالها. يكفي أن يكونوا أبطالاً كي يغفروا لهم الخسارات التي تتكبدها المجتمعات أجيالاً تلو أجيال.
هكذا نفهم فكرة بطولة الخسارة: فالعبرة ليست في الربح، بل في الإخلاص للفكرة والمعنى والمشروع والحلم. ورغم خسارة سيناء هتفت الجماهير بمساندتها جمال عبد الناصر، وشيّعه إلى مثواه الأخير خمسة ملايين من المؤمنين به بطلاً.
نحتاج دائماً إلى أبطال وإلى أفكار بطولية. فالواقع الإنساني لا يُزهر إلا بشيء من البطولة من منطلق أن بطل الوجود هو الإنسان، وبطولته تكمن في عقله الطموح الحالم.
هكذا بنى التاريخ ذاكرته فكانت أحداث الأبطال محفوفة بالخسارات والأوجاع، وأحياناً بالنهايات الصادمة كنهاية حنبعل الذي قرر الانتحار وهو من هو.
أيضاً، من المهم أن نفكك جانب الخسارة في البطولات. فنحن نتحدث عن أشخاص والإنسان مهما كان مثالياً وبطلاً فهو في غمرة حماسته لفكرته ولمشروعه يرتكب ما قد تكون نتيجته الخسارة أو ما يفتح نافذة مستقبلية على الخسارة. فمثلاً الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كان بطلاً حاملاً مشروعاً تحديثياً فريداً من نوعه، حيث راهن على المرأة وعلى التعليم وعلى الإنسان بوصف عقله الرأسمال الأول والأساسي. ولكن هذه البطولة لم تخلُ من خسارات أيضاً؛ إذ أهمل بورقيبة الديمقراطية السياسية وبالغ في تهميش الديني في مشروع بناء الدولة وفي البناء الاجتماعي التونسي العام.
فلبورقيبة أخطاء عدة، لكنه بطل في تونس وفي العالم العربي أيضاً، وحتى من لم ينتبه لبطولته من قبل فإن التاريخ والزمن والتجربة جعلته يتدارك أمره.
بيت القصيد: الأجيال السابقة من النخب السياسية والفكرية في غالبية المجتمعات جمعت من بين عناصرها أبطالاً، وإن ارتكبوا أخطاء ما زالت تعاني منها مجتمعاتها وأحياناً كل البشرية، لكنهم دخلوا التاريخ وقلوب الناس لأنهم كانوا صادقين وأصحاب مشروعات ورؤية وتحمسوا لأفكارهم التي اعتقدوا أنها جالبة للخير والتقدم لشعوبهم. وهو ما يعني أن البطولة نية وعزم وصدق بلفت النظر عن نتائجها، مع العلم أن البطل لا يكون كذلك إلا إذا أثبت للناس ذلك. ولأنه حامل لرصيد من البطولات الرابحة، فإن الناس تقبل الخسارة معه حتى ولو كانت كبيرة وفادحة.
اليوم نكاد نفتقد إلى أبطال في النخب الراهنة: السباق أصبح حول من يكون أكثر واقعية وأكثر إذعاناً للواقع وشروطه. لذلك؛ نلاحظ نوعاً من الفتور بين المجتمعات ونخبها، وكيف أن الجاذبية ضعيفة.
إن القاطرة الاجتماعية لا تتحرك دون أبطال، وكلّما كانت الأزمات قوية وكثيرة كانت الحاجة إلى الأبطال أقوى وأكثر. والمقصود بالبطل طبعاً هو من يقدم البدائل والفكرة الجديدة، ومن يجعل مجتمعه يلتف حول معنى من أجل البناء والخروج من الأزمات هو البطل. وهنا يمكن أن نشير إلى أن البطولة في اللحظة العربية الرّاهنة اقتصادية بالأساس: أي الحاجة إلى أبطال يساعدوننا على الإقلاع، وعلى تجاوز أزمات البطالة والفقر.
نحن اليوم في مرحلة غابت عنها البطولة وتراكمت الخسارات. بل أصبح التفكير في الأبطال فعلاً منبوذاً، يعده البعض شخصنة وتقديساً للأشخاص. لا غنى عن الأبطال: فلا فكرة بطولية دون بطل يجمع حوله الناس حتى لو آلت الفكرة إلى خسارة. أما ضرب فكرة البطولة والزعامة والكاريزما فهو ضرب لطبيعة الإنسان والمجتمع والنزوع الدائم نحو البطولة واستحقاقات الخلافة في الأرض.
وكم نحن العرب، اليوم، في أمس الحاجة إلى أبطال يعيدون صياغة الحلم والأمل، ويجددون قدرة الإنسان العربي على الحياة بطموح وإيجابية.