فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الطريق إلى مانهاتن بدأ من طهران

منذ أواخر التسعينات كان أسامة بن لادن يجري استشارات مستفيضة مع أعضاء مجلس التنظيم حول «العملية الحلم» التي ينوي القيام بها، يهمس في آذان مساعديه أن مخططه قادر على تغيير مجرى التاريخ... يروي الرجل الثالث بتنظيم «القاعدة» وكبير المستشارين الشرعيين محفوظ ولد الوالد (أبو حفص الموريتاني) أن سجالات حادة دارت بينه وبين أسامة. يرفض مفتي «القاعدة» القيام بمثل هذه العملية لاعتبارات شرعية بحتة، فالتأشيرة التي دخل بها أعضاء التنظيم للولايات المتحدة هي بمثابة «العهد» المحرّم نقضه مع أي كان حتى ولو كان عدواً. هذه المسألة الفقهية ستكون نقطة المفاصلة بين الاثنين. قبيل تنفيذ عملية أحداث 11 سبتمبر (أيلول) بأيام قدّم أبو حفص لابن لادن استقالته من كل مسؤولياته مع وعده له بأن يبقي هذه الاستقالة سراً حتى تتم العملية. قبل ابن لادن الاستقالة على مضض، ولكنه لم يلتفت لرأي مخالفيه في مجلس التنظيم.
«لقد علمنا بعد طول نقاش أن أسامة اتخذ القرار، وأعرفه جيداً حين يعزم على تنفيذ أمر لا يثنيه عنه أحد حتى لو اجتمع لذلك الثقلان» يقول أبو حفص.
بعد استقالته قام بكتابة مذكراته بما يزيد إلى الألف صفحة، وأجرى لقاءات وشهادات تلفزيونية مطولة كلها تدور حول ذكرياته مع التنظيم. والحقّ أن شهاداته تشكّل وثائق لا غنى عنها لأي باحث في تاريخ التنظيم وتحولاته وصراعاته، ومن بين تلك الشهادات حديثه عن علاقة «القاعدة» بإيران. أوكل بن لادن مساعده الموريتاني بتولي ملف تنسيق العلاقة بين التنظيم وإيران. في شهاداته ومذكراته لم يثبت فقط وجود علاقة متينة وقوية شملت صفقات تبادل أسرى وإنما يضيف أن إيران حاولت الذهاب بعيداً في ترسيخ العلاقة وتجذيرها معهم. يضيف أن تأسيس التحالف كان له أسبابه؛ من بينها الواقع الجغرافي الضاغط، إذ يحتاجون لمنطقة يعبرون بها من كهوف أفغانستان إلى أوروبا والولايات المتحدة، وقد وجد التنظيم في إيران الخيار الاستراتيجي المناسب. لم يشأ بن لادن إظهار التنسيق مع «الدولة الشيعية» إلى العلن لئلا يصاب أعضاء التنظيم في جزيرة العرب بالصدمة. يعترف الموريتاني بأن التنظيم على دراية كاملة بأن إيران تستخدم التنظيم كورقة ابتزاز مع أوروبا والولايات المتحدة، ولكنهم يعرفون كيف يتصرفون معها في حال تعرضوا لأي خذلان أو خيانة. لكن إيران أوفت بعهدها الوثيق الذي أبرمه الموريتاني الممثل الشخصي لأسامة بن لادن.
طوال تاريخ التنظيم لم تتعرض إيران أو مصالحها لأي هجوم أو أضرار مبرحة، باستثناء اختطاف دبلوماسيين إيرانيين لـ«أغراض محدودة». الطرفان حافظا على «تنظيم الخلاف». يقرّ أبو حفص الموريتاني بأن «وثائق أبوت آباد» التي أفرجت عنها الاستخبارات الأميركية والمتضمنة مراسلات بن لادن كلها «صحيحة، ومضمونها مؤكد». وعليه فإن حديث بن لادن عن إيران في رسائله يوضّح كيف حرس تنظيم «القاعدة» إيران من الاستهداف، وكيف حمت إيران قيادات التنظيم.
في رسائله يحذّر بن لادن من استهداف إيران، ويذكّر بأفراد عائلته المقيمين هناك، ويعتبر استهدافها غير مجدٍ لأنه سيفتح جبهة من دون طائل، وبخاصة أن إيران باتت «الملاذ للمجاهدين» بعد القصف الأميركي على أفغانستان.
إن علاقة «القاعدة» بإيران بدأت منذ أوائل الثمانينات، ولكنها بلغت نضجها قبيل أحداث 11 سبتمبر؛ وآية ذلك أن شهادة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) - وكما عرضتها جريدة «الشرق الأوسط» في مارس (آذار) من عام 2016 - كلها تؤكد أن العديد من المنفذين لأحداث سبتمبر تلقوا دعماً من إيران، على مرحلتين؛ بدايةً الدعم المالي، وتالياً الدعم الاستراتيجي الميداني.
لقد عبروا جسر إيران قبل الانغماس في أميركا؛ الطريق إلى مانهاتن كان آمناً بفضل مساعدة سخية من إيران!
لا يزال التحالف بين تنظيم «القاعدة» وإيران يرقى لمستوى «التنسيق القوي»، إذ سكنها بطمأنينة عدد كبير من قيادات التنظيم، مثل سيف العدل، ومحمد الحكايمة، وسليمان أبو غيث، ومحمد الظواهري، ومصطفى حمزة، والوجه الجديد القادم بقوة لقيادة التنظيم حمزة بن أسامة بن لادن. سيف العدل - مثلاً - كتب في مذكراته «الانسياح في الأرض» عن إيران... كيف صارت أرض الانطلاق لتنفيذ العمليات الكبرى.
وأخيراً، وفي رسالة خطها بن لادن إلى الأخ كريم مكارم يقول وبعبارته غضب: «إن مسألة تهديدكم لإيران، لي عليها بعض الملاحظات، أرجو أن يتّسع صدرك وصدر إخوانك لها. إنكم لم تشاورونا في هذا الأمر الخطير، الذي يمسّ مصالح الجميع، وقد كنا نتوقع منكم المشورة في هذه المسائل الكبيرة. فأنت تعلم أن إيران هي الممر الرئيسي بالنسبة للأموال والأفراد والمراسلات وكذلك مسألة الأسرى».