ليونيد بيرشيدسكي
TT

ما يقوله الاتحاد الأوروبي بشأن «بريكست» هو الصحيح

عندما بدأت ابنتي الصغيرة في تعلم لعبة الشطرنج، كانت متضايقة بشدة أن قطع اللعب لا تذهب دائماً إلى حيث تريد، وهي لا تزال تتجاهل، في أغلب الوقت، حركات الخصوم، ظناً منها أن الفوز في اللعب يعتمد فقط على بضع حركات خاصة تقوم بها من تلقاء نفسها.
وعلى مدى عامين ماضيين، كانت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تتصرف بأسلوب مشابه. وبالتالي لا ينبغي عليها الاستغراب أن ميشيل بارنييه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي بشأن «بريكست»، قد أسقط يوم الخميس الماضي خطتها المعنية بمستقبل العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد المغادرة والتي أنفقت السيدة ماي عليها الكثير من رأسمالها السياسي. ولا ينبغي لها الاستغراب أيضاً أن محاولات استمداد ردود الفعل المختلفة من قادة الاتحاد الأوروبي باتت غير مجدية هي الأخرى.
وقال بارنييه في لندن: «ليس بإمكان الاتحاد الأوروبي، كما أنه لن يقوم بتفويض تطبيق السياسات والقواعد الجمركية، وضريبة القيمة المضافة، وتحصيل الرسوم الواجبة إلى الدول غير الأعضاء في الاتحاد، والتي لا تخضع لنظم الحكم المعمول بها ضمن الاتحاد. ويجب على كل الترتيبات الجمركية أو الاتحاد الجمركي - وقلت دوماً إن الاتحاد الأوروبي منفتح على فكرة الاتحاد الجمركي - احترام هذا المبدأ تماماً».
كانت فكرة تطبيق المملكة المتحدة للقواعد الجمركية لدى الاتحاد الأوروبي هي المقترح الرئيسي في الكتاب الأبيض الذي نشرته حكومة السيدة ماي في الشهر الحالي. وهذا الكتاب، الذي يهدف إلى إعادة إحياء التجارة الخالية من أية توترات أو احتكاكات مع الاتحاد الأوروبي مع عدم كون المملكة المتحدة جزءاً من الهياكل التنظيمية الحالية في الاتحاد، كان ثمرة الحل الوسط الموجع داخل حكومة وحزب السيدة ماي، ووزرائها الرئيسيين، مثل وزير الخارجية بوريس جونسون ووزير البريكست ديفيز ديفيز، اللذين تقدما باستقالتيهما. وبالنسبة لأنصار «بريكست» مثالاً بهذين الوزيرين، لا يقدم الكتاب الأبيض الضمانات الكافية لاستقلال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة إلى السيد بارنييه، فإنها نفس اللعبة القديمة التي حاولت المملكة المتحدة ممارستها مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 2016؛ أي محاولة الاحتفاظ بمكاسب الانضمام لأكبر تكتل تجاري عالمي من دون الاعتراف بسيادته التجارية أو الامتثال لقواعده المعمول بها.
وقال السيد بارنييه في نفس الخطاب باعتباره كبير مفاوضي «بريكست» على الجانب الأوروبي في ديسمبر (كانون الأول) لعام 2016: «إن اختيار المكاسب المفضلة ليس خياراً مطروحاً للتفاوض».
وكرر السيد بارنييه قائلاً في 22 مارس (آذار) لعام 2017: «لن يكون من الممكن الاختيار والتفضيل مع المشاركة المستمرة في أجزاء من السوق الموحدة».
وأكد قائلاً في 5 مايو (أيار) لعام 2017: «لن نُعرض سلامة السوق الموحدة للخطر أبداً في خضم هذه المفاوضات».
وأعاد مؤكداً مرة أخرى في 6 يوليو (تموز) لعام 2017: «سمعت بعض الناس في المملكة المتحدة يقولون إنه بإمكان أحدهم مغادرة السوق الموحدة مع بناء الاتحاد الجمركي بهدف تحقيق التجارة الخالية من الاحتكاكات، وهذا غير ممكن على الإطلاق».
وشدد مجدداً في 3 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2017 على القول «نطلب منكم احترام حقيقة أننا لن نتهاون في حماية سلامة السوق الأوروبية الموحدة، وعلى احترام القواعد المعنية بأداء صناعة القرار واستقلاله داخل الاتحاد الأوروبي».
وأوضح مرة أخرى في 9 يناير (كانون الثاني) من عام 2018: «أحد شواغلي الرئيسية في هذه المفاوضات هو المحافظة على سلامة السوق الموحدة التي تصب في صالحنا جميعاً، وهي غير مطروحة للتفاوض بشأنها قط».
وشدد في 26 أبريل (نيسان) من عام 2018 على أنه «لا يمكن أن تكون هناك تجارة خالية تماماً من الاحتكاك خارج الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة».
وأعاد تذكير الحضور في خطاب ألقاه يوم 10 يوليو من العام الحالي حين قال: «قررت المملكة المتحدة مغادرة السوق الموحدة والاتحاد الجمركي في الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن (بريكست) سوف يخلق احتكاكاً في التجارة لا وجود له في الواقع الراهن».
وقال المؤلف الإنجليزي لويس كارول في روايته «ذي هانتينغ أوف ذا سنارك»: «إن ما أخبرك به ثلاث مرات لهو أمر صحيح». ولقد أوضح السيد ميشيل بارنييه نفس النقطة الرئيسية أكثر من ثلاث مرات؛ ولقد سجل ذلك بصبر عجيب على جهاز الرد على المكالمات الخاص به، وذلك لأن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه إنشاء سابقة بعقد الترتيبات التجارية التي تمنح الدول غير الأعضاء في الاتحاد كل الامتيازات مع التخلي تماماً عن مسؤوليات العضوية، إذ سيطالب كل الشركاء التجاريين المعاملة بالمثل، ولن تكون لعضوية الاتحاد من مغزى حينئذ بالنسبة لكثير من الدول داخل الاتحاد الأوروبي.
وأطلقت السيدة ماي، فيما بين مختلف التصريحات التي أطلقها السيد بارنييه، عملية «بريكست»، وعقدت انتخابات كارثية، وأنجزت الكثير من خطوات التقدم المربكة إلى الاتحاد الأوروبي، وفقدت وزيراً مرة كل ستة أسابيع في المتوسط، وتواصلت مع كثير من قادة الاتحاد الأوروبي لمعرفة ما إذا كانت حالة الانقسام التقليدية داخل أروقة الاتحاد سوف تمنحها منفذاً للولوج إلى ذلك النوع من الصفقات التي لن يبرمها السيد بارنييه بحال. (واصل السيد بارنييه التأكيد على أن هذه الطريقة لن تفلح أبداً؛ وهي لم تفلح فعلاً).
يمكن تفهم تكتيكات السيدة ماي من منظور سياسي محلي وضيق للغاية. فهي تناور لأجل إبقاء حكومتها على قيد الحياة وإبقاء منافسي حزبها الحاكم أبعد ما يكونون. ومن خارج المملكة المتحدة، رغم كل شيء، يبدو الأمر وكأن السيدة ماي ترفض الاعتراف بالخطوط الحمراء المعلنة بكل وضوح من جانب الاتحاد الأوروبي، ظناً منها أنها قابلة للتفاوض، رغم أنه ما من أحد داخل الاتحاد الأوروبي قد أشار إلى هذا الأمر من قبل، وما من أحد يدرك موقف الاتحاد الأوروبي تماماً قد يتصور التفاوض بشأنها أبداً. وهذا المنهج أبعد ما يكون عن النجاح، وهو مفعم بالمخاطر الجمة من حيث توقع الذعر الذي يسري بين قادة الاتحاد الأوروبي والإطاحة بتفويض السيد بارنييه في اللحظة الأخيرة تجنباً لعدم إبرام أية صفقات بشأن «بريكست».
قد تكون لدى السيدة ماي وسيلة للفرار من هذه الدوامة التي لا نهاية لها، وهي الموافقة على عقد استفتاء جديد بشأن «بريكست». وللمرة الأولى، أن نسبة المواطنين البريطانيين الراغبين في إجراء استفتاء آخر هي أعلى الآن ممن لا يريدون التصويت على الأمر مجدداً. ويبدو أن الخطة التي رفضها السيد بارنييه يوم الخميس هي السبب في هذا التحول. ومع إدراك الناس في المملكة المتحدة لحدوث الانقطاع التام عن الاتحاد الأوروبي في بيئة فوضوية تتسم بعدم إبرام أية صفقات على الإطلاق، فإنهم يقتربون من العلم التام بمجريات الأمور، مما يضعهم في مكانة يسمح لهم باتخاذ القرار المدروس بعناية فضلاً عن ذلك الذي اتخذوه من قبل في عام 2016.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»