إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

آخر تانغو في بغداد

في بلدة غلينديل الهادئة، على أطراف لوس أنجليس، يمضي سامي شيخوخة مثقلة بالصور. البعض مما يراه في مهجره الأميركي يُذكّره بهناك: الشمس والنخيل وسمرة الوافدين من المكسيك. وهو أسمر مثلهم. واحد من المهاجرين العراقيين الذين انتشروا في بلاد الله الواسعة دون أن يبرأوا من الحنين إلى «الوطن الأم». تسمية ما زال يبحث عن تعريف دقيق لها. هرب أبوه الأرمني من المذبحة، واستقر في بغداد. وفيها، ولد سامي وأشقاؤه وشقيقاته الكثر. لم يزر يريفان، عاصمة أرمينيا، سوى مرة وحيدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. أيكون مسقط الرأس هو الوطن الأم أم بلد الأجداد؟ هل هناك الوطن العمّة أو الوطن الخالة؟
في أول صباه، امتلك دكاناً صغيراً لبيع العلكة والمكسّرات قرب سينما غازي. وكان يتردد في أوقات الراحة على مدرسة للرقص الإفرنجي قريبة من حديقة الأمة، يديرها شخص يدعى إلياس بحر، أبو صباح. وحدث أن قصد المدرسة رجل يريد أن يتعلم التانغو والفالس. وطلب أبو صباح من سامي أن يتولى المهمة. كان الرجل متوسط العمر، نحيلاً يرتدي قميصاً وسروالاً عاديين، خجولاً يتحرج من تقليد خطوات معلمه. تبادل سامي معه بضع عبارات، وعرف أنه ضابط في الجيش، يستعد للالتحاق بدورة عسكرية في بريطانيا، وعليه أن يكون مستعداً لما قد يصادفه من لياقات المجتمع الإنجليزي. لكن التلميذ سرعان ما تغلب على جموده، وترك نفسه للموسيقى تدور به وفق إيقاعها. أتقن الفالس، وكان مسروراً، وشكر معلّمه وذهب. درس وحيد لا غير.
يسجّل المؤرخون الوقائع الكبرى، ويتركون للروائيين الانشغال بالتقاط ما يتساقط من جيوب التاريخ الرسمي. تمرّ الفصول، وتتزلزل الدنيا في بغداد. ينقلب الجيش على الحكم، وينتقل العراق من الملكية إلى الجمهورية. يسمع الناس بيانات من الإذاعة. قتل وسحل وجثث تعلّق على المباني. نزل سامي من بيتهم في محلة البتاويين يستطلع الأخبار. الجو حار، والبغادّة في السطوح والشرفات وعلى الأرصفة، والراديو يبث أناشيد حماسية. يرى من أول الشارع صديقاً قديماً يأتي طائراً على دراجة هوائية، بيده منشور طبعت عليه صورة زعيم الثورة. تفرّس في الورقة، وتعرّف فيها على الضابط الذي قصد مدرسة إلياس بحر لتعلم الرقص، عبد الكريم قاسم.
كان أمين العاصمة، أرشد العمري، قد أصدر قراراً بإزالة سينما غازي وما يجاورها. فقد الشاب الأرمني دكانه الذي يعتاش منه، وانتقل للعمل في شركة تقع في شارع السعدون، بناية فؤاد حبة. وتشاء المصادفات أن بيت عبد الكريم قاسم يقع في الفرع نفسه. يعود من وزارة الدفاع إلى منزله في الشارع الذي صار اسمه «شارع الزعيم»، فيخرج الجيران والعاملون في المكاتب للتصفيق والترحيب به. يهرب الصبية الذين تسلقوا السدرة في حديقته، فيؤشر لهم ويدعوهم لقطف ما يريدون من النبق. وكانت هناك سيدة أرمنية في الجوار تعتني به، اسمها أم زكي. وبفضل أم زكي، منع الزعيم هدم مقر جمعية الشبيبة الأرمنية، الطاشناق، بعد وشاية من جمعية منافسة.
تجاوز سامي الثمانين ببضع سنوات وما زال يدير أسطوانة الذكريات في رأسه. يرقص الفالس في الخيال مع الضابط النحيل الذي دخل التاريخ صباح 14 يوليو (تموز) سنة 1958، قبل ستين عاماً بالتمام والكمال. دخله منتصراً وخرج منه قتيلاً. تقليد عراقي محتوم. ثورة أم انقلاب؟ جدل وخلافات في الآراء، وتسمية ثانية تحتاج إلى إعادة تعريف. غير أن المتفق عليه هو أن البلد، من يومها، يدور في رقصة دموية لا تتيح فرصة لالتقاط النَفَس.