ما زلت أذكر المؤتمر الصحافي الذي عقده السفير بول بريمر الحاكم المدني الأميركي السابق في العراق، والجنرال ريكاردو سانشيز قائد القوات الأميركية في العراق، في قصر المؤتمرات ببغداد في اليوم التالي من اعتقال رئيس النظام العراقي الأسبق صدام حسين، في حفرة جنوب تكريت في 13 ديسمبر (كانون الأول) 2003، أي قبل عشر سنوات من الآن، في عملية أميركية أطلق عليها اسم «الفجر الأحمر».
حضرت المؤتمر أسوة ببقية الصحافيين بعد أن وصلت إلينا دعوات عاجلة، في نفس اليوم، من الجيش الأميركي ومجلس الحكم العراقي، آنذاك، بضرورة الحضور ترقبا لإعلان مهم.
من دون مقدمات ولا أكليشيهات بل بخمس كلمات فقط أعلن بريمر بانفعال وزهو شديدين: «سيداتي وسادتي، إنه في قبضتنا!». وبأسرع من الإعلان عرض علينا نحن الحاضرين فيلما قصيرا يظهر صدام أشعث ملتحيا، بينما يد أميركية تعبث بشعره وأسنانه.
صورة صادمة! شتان ما بين آخر ظهور له قبل ذلك بنحو ثمانية أشهر عندما صعد على سقف سيارة محييا مؤيديه في حي الأعظمية ببغداد قبل سقوطه في التاسع من أبريل (نيسان) من ذلك العام، وبين هذا الظهور المخزي بكل ما في الكلمة من معنى. صورته الجديدة شكلت لي صدمة لا أدري كيف تداركها أغلب الحضور في ذلك المؤتمر، من العراقيين خصوصا، فراحوا يصفقون ويهللون للحدث فورا من دون أي إحساس بالذهول الذي تملكني، وكأن ظهوره بهذا الشكل الشائن وضع طبيعي لا أنه ذلك الديكتاتور، الذي عرفناه طيلة 35 سنة.
في تلك اللحظة، في قصر المؤتمرات، رأيت صدام على حقيقته بلا هالة ولا مظاهر زائفة.. رجل متقدم في السن، ضعيف ومهلهل الثياب. آخر ما يمكن أن تشعر به إزاءه الحقد رغم كل الجرائم التي اقترفها هو ونظامه، بل الشفقة لما أوصل نفسه إليه ومعه عائلته وأقرب الناس إليه، ناهيك عن البلاد بأسرها. أسرته مشردة، ونجلاه لقيا حتفهما، أما هو فسقط شر سقطة بيد ألد أعدائه. هل يستحق هذا الرجل شيئا من الضغينة؟ لا أعتقد.. فالعدالة الإلهية أخذت مجراها.
صورة صدام في ذلك اليوم كانت تجسيدا للنظام العراقي السابق وما حل به في ذلك العام، ولا يمكن وصفه إلا بالمهزوم والمستكين والمستسلم لقدره، والغريب أن آخر ظهور لصدام بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، أي لحظة إعدامه في ديسمبر 2006، وهو يجادل حراسه ويرد عليهم كلمة بكلمة مستعيدا شيئا من سطوته السابقة، عكس أيضا صورة نظامه، أو ما تبقى منه، وقد استجمع رباطة جأشه وصار يناور بحثا عن موطئ قدم في «العراق الجديد».
وها نحن ندور في حلقة مفرغة منذ ذلك الحين في صراع دام بين طرفين، أحدهما يرفض الإقرار بهزيمته ويقاتل حفاظا على مجد زائل، وآخر لم يكتف بخسارة خصمه بل يريد إقصاءه، لا من الحكم فحسب بل من الوجود أيضا.
غادرت المؤتمر الصحافي بمهل فلا حاجة للإسراع إلى مقر الصحيفة التي كنت أعمل بها آنذاك، فالخبر شاع في كل مكان، وصوت الرصاص يدوي في سماء بغداد ابتهاجا بالنبأ. ذعر الأميركيون وظنوا أن حربا ما قامت في العاصمة، ولم يهدأ لهم بال حتى علموا أننا عندما نفرح نطلق العنان لأسلحتنا! أما أنا فوضعت يدي على قلبي وقلت في سري: «الله يستر من الأيام المقبلة».. وصح حدسي.
11:15 دقيقه
TT
يوم القبض على صدام
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
