دارون أكيموغلو
TT

النمو السريع أهم ثمار الديمقراطية

على عكس الشائع بين الناس، فإن الأنظمة الفاشستية نادراً ما تنجح في إنجاز مهامها. فمن السهل رصد أخطاء الديمقراطية العديدة على مر العصور. أفلاطون مثلاً ربط بين الديمقراطية والفوضى وعدم الاستقرار وحتى حكم الغوغاء، وجادل بأنها ثاني أسوأ أشكال الحكم بعد الطغيان. غير أن أرسطو كان أكثر تسامحاً مع فكرة الديمقراطية لكنه كان متشككاً من العملية الديمقراطية برمتها، وهو ما تجلى في قوله «ليس من الأمان أن تثق بهم (الناس) عندما يتقلدون المناصب العليا في الدولة». فالكثير من فلاسفة الغرب المعاصرين، ومنهم مونتسيكيو وروسو ونيتشه، اشتركوا في انتقاد الديمقراطية.
تلك النظرة كانت سائدة حتى قبل المخاوف الحالية من الديمقراطية، خاصة عندما يتعلق الأمر بمدى ملاءمة الديمقراطية للحكم في غالبية دول العالم. وفي هذا السياق، كتب القاضي والاقتصادي المرموق ريتشارد بوسنر، على سبيل المثال، عام 2010 يقول، «الديكتاتورية ستكون في الغالب الخيار الأمثل للدول التي تعاني من الفقر الشديد. فمشكلة تلك الدول لا تكمن في اقتصادها البسيط فحسب، بل أيضاً في انعدام المتطلبات الثقافية والمؤسساتية بها والتي تعتبر متطلباً مهماً من متطلبات الديمقراطية». وفي الوقت الحالي أصبحت قائمة الاتهامات الموجة للديمقراطية أكبر، فهي متهمة بحالة الجمود والعجز عن الإصلاح، وبالطبع بانتخاب شخصيات مثل تلك التي تسكن البيت الأبيض حالياً. ونظراً لجميع جوانب الخلل تلك، ليس من قبيل المفاجأة أن الدول الديمقراطية تعاني من مشكلات اقتصادية. لكن ليست القضية هنا أن الديمقراطية لا تتناسب مع متطلبات النمو. الحقيقة مختلفة إلى حد ما، فالديمقراطية مفيدة للنمو. والدول التي تحولت إلى الديمقراطية بعد أن كانت ديكتاتورية عسكرية أو مستبدة أو أوتوقراطية تمكنت من النمو السريع خلال عشرين عاماً تقريباً من التحول وانتهى بها المطاف بزيادة متوسط دخل الفرد بواقع 20 في المائة، وكوريا الجنوبية خير مثال على ذلك. فمعجزة النمو في كوريا الجنوبية غالباً ما يعود الفضل في تحقيقها إلى قادتها المستبدين الذين حكموها في ستينات القرن الماضي، مثل الجنرال بارك تشونغ هي، الذي أدار عجلة البلاد الصناعية في البلاد. لكن النمو تباطأ بحلول حقبة الثمانينات، عندما وصل متوسط دخل الفرد هناك إلى ثلث نظيره في اليابان. اجتاحت المظاهرات الطلابية والعمالية والمطالبة بالديمقراطية البلاد خلال تلك الفترة لتسقط الحكومة العسكرية عام 1987، لتحقق البلاد نمواً سنوياً ناهز 5 في المائة خلال العقدين اللاحقين. واليوم فإن دخل الفرد هناك يقل عن اليابان بواقع 30 في المائة فقط.
لكن كيف يمكن أن يكون ذلك صحيحاً؟ أليست الصين أعظم معجزات النمو في كل العصور؟ ألا يعتقد غالبية المعلقين بأن الديمقراطية ليست مفيدة، أو على أقل تقدير، غير ضارة للنمو؟ أليست الديمقراطيات سيئة عند التفكير في تبني الإصلاحات التي ستعزز من النمو الاقتصادي مثل محاربة الفساد والاحتكار؟ بالتأكيد لا تستطيع الديمقراطية العمل في الدول الفقيرة أو في المجتمعات ذات التعليم المتدني، ولذلك ألا تؤدي تبعاتها الاقتصادية إلى كوارث؟ ألا تعاني كافة الديمقراطيات بجميع أنحاء العالم اليوم من طبيعة الديمقراطية الخرقاء؟
دعوني أناقش تلك النقاط بقدر من التفصيل:
نعم، النمو مدهش في الصين ولا تستطيع دولة ديمقراطية مجاراتها في ذلك. لكن لو أننا قارنا النمو في الصين في نهاية حقبة السبعينات من القرن الماضي عندما كان متوسط دخل الفرد أقل من 300 دولار سنوياً مع نسب النمو في ألمانيا أو الولايات المتحدة، فسنكون كمن يقارن بين الماس والتراب. السؤال الصحيح يجب أن يكون ما إذا كانت ألمانيا ستحقق النمو في العقدين الأخيرين لو أنها كانت غير ديمقراطية، وما إذا كانت الصين ستحقق النمو لو أنها كانت ديمقراطية. فتلك التساؤلات الافتراضية غالباً ما يكون من الصعب الإجابة عنها لأنها تتطلب نهجاً إحصائياً للوصول إلى تقدير تقريبي لشكل النمو حال كان نمط الحكم مختلفاً في دولة ما. والنهج الأسهل هنا هو تحاشي عقد مقارنات بين الدول مثل حالتي الصين وألمانيا، فالأجدر هنا هو النظر إلى منحنى النمو في دولة ما بعد تبنيها للنموذج الديمقراطي (والعكس). فقد كشف هذا النوع من التحليل بوضوح مؤخراً عن تراجع النمو في الدول غير الديمقراطية. نعم فقد كان هناك إجماع في النقاشات العامة وفي وجهات النظر في الأبحاث الأكاديمية على أن الديمقراطية غير مفيدة للنمو، لكن لتلك النظرة أخطاءها في استنادها إلى العديد من المصادر، أولها وأهمها هي أن غالبيتها استند إلى عقد مقارنات عارضة لخبرات الدول الديمقراطية في النمو وبعض الدول غير الديمقراطية، مثل مقارنة النمو في الصين مع النمو في الدول الغربية، بدلاً من القيام بتحليل متأنٍ ودقيق. ولفهم السبب الثاني، من المفيد هنا الإشارة إلى أن الأنظمة غير الديمقراطية غالباً ما يرتبك اقتصادها. ولذلك غالباً ما ترث الديمقراطية دولة ذات اقتصاد مأزوم. ولو أننا قارنا اقتصاد ما بعد سنوات بسيطة من التحول الديمقراطي مع نفس الاقتصاد قبل سنوات من تبني الديمقراطية فسيكون الانطباع مضللاً لأنه سيربط بينه وبين الاقتصاد المتذبذب. في النهاية، بالعودة إلى أفلاطون وأرسطو، فقد تشكك غالبية المثقفين في صناعة القرار الديمقراطي ليظهروا ضعف الديمقراطية ويجعلوهم يتجاهلون نجاحاتها.
هناك نظرة سائدة بأن الديمقراطية ضارة بالإصلاح الاقتصادي، وغالباً ما يستند ذلك الزعم إلى أن الدولة تحتاج إلى قبضة الديكتاتور القوي للدفع بالإصلاحات إلى الأمام على غرار ما فعل الجنرال أوغستو بينوشيه في تشيلي بعدما أطاح بحكومة سلفادور دالي المنتخبة ديمقراطياً عام 1973 (وأعقب ذلك إعدامه لنحو 3000 شخص). واليوم فالكثيرون يؤيدون الحكومات الفاشستية لأنهم يرون ذلك أفضل لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية القاسية التي لا تقوى الديمقراطية على هضمها.
لكن الحقيقة تبدو على النقيض تماماص؛ ففي العديد من الأماكن، نرى الديمقراطيات أقدر في الغالب على تبني نمط الإصلاحات التي لا تلحق الضرر بالسوق. فعندما تتحول دولة ما إلى النهج الديمقراطي، فإنها غالباً ما تتعهد بتنفيذ عدد من الإصلاحات وتلغي عدداً من القوانين غير الفعالة والممارسات الاحتكارية التي غرستها الأنظمة غير الديمقراطية السابقة. وتعد تلك النزعة لتبني إصلاحات السوق أحد الأسباب التي أدت إلى نجاح الدول الديمقراطية في زيادة معدلات النمو الاقتصادي، وإن لم تكن السبب الوحيد. ونتيجة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى التي تجلبها الديمقراطية، تزيد الاستثمارات عقب التحول الديمقراطي، وذلك هو السبب، بالإضافة إلى الإصلاحات الاقتصادية، في زيادة النمو خلال السنوات التي أعقب بداية الديمقراطية. غير أن التغيير الأبرز بعد التحول الديمقراطي ليس الإصلاحات السوقية ولا الاستثمار، بل زيادة الضرائب وزيادة الإنفاق على التعليم والصحة وعلى إعداد الاقتصاد لتحقيق إنتاجية أكبر خلال العقود القادمة. نعم، يبدو ذلك معقولاً ظاهرياً، فعندما يكون الناخب متدني التعليم وعندما يكون الاقتصاد بعيداً عن الاقتصاد الحديث، سيعاني الاقتصاد من مشكلات كبيرة وربما تكون النتائج السلبية للديمقراطية أكثر من إيجابياتها. لكن البيانات أظهرت شيئاً مختلفاً، فالتحول الديمقراطي في الدول ذات الاقتصاد المتدني والتعليم المتواضع غالباً ما يؤدي إلى نمو سريع. في الحقيقة، يجب ألا ننكر أن بعض الدول غير مهيأة للديمقراطية، وأيضاً أنه ليس لذلك علاقة وثيقة بالتعليم ولا ببنية الاقتصاد، بل بطبيعة السياسة في البلاد. لنأخذ ليبيا مثلاً بعد وفاة الديكتاتور الذي حكمها لفترة طويلة، العقيد معمر القذافي. فالديمقراطية هناك وصلت إلى القاع بعدما حكم القذافي البلاد مستغلاً الخلافات القبلية لتعزيز قبضته وللتخلي عن بناء أبسط متطلبات الحياة غير العسكرية، ولذلك تكدست الأسلحة في مخازنه وفي يد جماعاته المسلحة. ففي بيئة كهذه، فإن السياسة الديمقراطية تواجه صعوبة في البقاء. ولذلك فإن نسبة 20 في المائة زيادة في معدل دخل الفرد السنوي بعد التحول الديمقراطي تصبح ملحوظة أكثر. ولذلك فإن فنسبة النمو تلك التي تتحقق في الدول حديثة العهد بالديمقراطية تشمل دولاً مثل ليبيا.
ولذلك يجب أن تدفعنا تلك الأسباب إلى دعم الديمقراطية، وليس للتخلي عنها. فالديمقراطية أحياناً تكون هشة، وأحياناً مسدودة وأحياناً مستقطبة وأحياناً تتسبب في مواجهات. لكنها فهي ليست السبيل لحماية الناس ولصيانة أصواتهم فحسب، بل هي الخيار الأفضل لصحة الاقتصاد إذا ما قارناها بالبدائل الأخرى. وهنا يتضح معنى عبارة تشرشل التي تقول «لا يستطيع أي شخص أن يزعم بأن الديمقراطية خيار كامل. فالديمقراطية هي أسوأ أنماط الحكم، باستثناء بعض الأنماط التي تمر علينا بين الفينة والأخرى».
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»