ليونيد بيرشيدسكي
TT

روسيا تضيع فرصتها في أوروبا

خلقت تصرفات الرئيس الأميركي دونالد ترمب المزعجة لحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين فرصة فريدة من نوعها لعلاقات أكثر دفئاً بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. غير أن هناك عقبة كبيرة للغاية على الطريق، ألا وهي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
رسخت أوروبا حالة من التقارب الشديد مع الولايات المتحدة في أعقاب حقبة الحرب الباردة، ولا سيما فيما يتعلق بالقدرات العسكرية الأميركية الهائلة. لكن وفي الآونة الأخيرة، شهدت تلك العلاقات بعض السلبيات المتزايدة، بما في ذلك الضغوط المستمرة لمشاركة الحلفاء في المغامرات العسكرية الأميركية المثيرة للشكوك في منطقة الشرق الأوسط، إلى جانب مطالب الرئيس ترمب الملحة بأن يدفع الأوروبيون المزيد من أموالهم مقابل الحماية. كما منحت الإدارة الأميركية الحلفاء الأوروبيين كل سبب ممكن للتشكيك في التزام الرئيس الأميركي بالتحالفات والقواعد الدولية المعمول بها مع انسحابه من اتفاقية تلو الأخرى من التي بذلت الجهود المضنية في التفاوض بشأنها وإبرامها. وجاء أحدث مظاهر تصور الولايات المتحدة لدورها الجديد في القارة العتيقة على لسان السفير الأميركي لدى ألمانيا ريتشارد غرينيل، الذي صرح قائلاً إنه يحاول «تمكين» القوى اليمينية في أوروبا.
ولقد دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الأوروبيين لتحمل تبعات مصيرهم على عاتقهم، لكن هذا يسهل قوله كثيراً عن فعله؛ فالاتحاد الأوروبي غير قادر على ضمان الأمن، وللولايات المتحدة نفوذ وتأثير كبير على نظام الاتحاد الأوروبي المالي.
ولكن لنتصور للحظة أن روسيا كانت دولة ديمقراطية تديرها حكومة ليبرالية ملتزمة السمات والقيم الأوروبية نفسها، مثل الاتفاق الإيراني لنزع السلاح النووي والحكم التجاري لمنظمة التجارة العالمية. وروسيا على هذه الصورة سوف تظل القوة العسكرية الكبيرة التي يحسب لها الحساب، ولكن سوف يكون لديها اقتصاد تنافسي صحي وسريع النمو يحول ثرواتها من الموارد الطبيعية الهائلة إلى طفرات من الإبداع والابتكار. من شأن روسيا التخييلية هذه أن تعرض نفسها - التي لن تقوم بغزو عسكري لأي دولة مجاورة بطبيعة الحال - كشريك أكثر موثوقية بالنسبة إلى أوروبا من الولايات المتحدة. وسوف يميل الأوروبيون إلى عقد الصفقات الرابحة معها، وفتح الأسواق الأوروبية الكبيرة أمام روسيا مقابل التعاون العسكري والأمني، على سبيل المثال في إنشاء الجيش الأوروبي الموحد. ولسوف تكون هناك مجالات من التوافق الفوري، إذ سوف تواصل بعض جيوش أوروبا الشرقية استخدام الأسلحة والمعدات الروسية الصنع.
وعلى نحو تدريجي، سوف يظهر بديل جاد للهيمنة الأميركية سريعة التقلب وغريبة الأطوار. ومن شأن القوة العظمى الجديدة أن تنافس بقوة على المضمار الاقتصادي (يمكن للاتحاد الأوروبي وروسيا السيطرة سوياً على 27 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المشترك لمجموعة العشرين، في حين أن الولايات المتحدة سوف تسيطر بمفردها على 28 في المائة)، وعلى القوة العسكرية، وثروات الموارد الطبيعية، والمواهب التكنولوجية (يمكن استخدام الخبرات الرقمية الروسية في الأغراض السلمية بدلاً من اختراق شبكات الخصوم). ومن شأن روسيا أن تتحول إلى شريك أكثر منطقة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي من الصين، التي تتطلع بنشاط لزيادة مستويات التعاون مع أوروبا بسبب تصرفات الرئيس الأميركي المثيرة للقلق.
يستشعر الرئيس بوتين الفرصة التاريخية السانحة. وخلال منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي مؤخراً، الذي ضم كوكبة من الزعماء الوطنيين الذين أساء إليهم الرئيس دونالد ترمب، مازح الرئيس الروسي نظيره الفرنسي قائلاً: «تعتمد أوروبا على أميركا في الأمن، ولكن لا داعي للقلق من ذلك، فسوف نساعدكم ونوفر لكم الأمن!».
وفي مقابلة شخصية مع قناة (أو آر إف) النمساوية مؤخراً، خالف الرئيس بوتين عادته في طمأنة الأوروبيين بأنه لن يحاول تقويض الاتحاد الأوروبي، وذلك فقط لأن روسيا تحتفظ بـ40 في المائة من الاحتياطي النقدي الدولي لديها باليورو: «نود أن نرى الاتحاد الأوروبي موحداً ومزدهراً، وذلك لأن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري واقتصادي لدينا. وكلما زادت المشكلات داخل الاتحاد الأوروبي، ارتفعت حدة المخاطر والشكوك التي نواجهها».
بيد أن بوتين غير قادر على توفير البديل عن الولايات المتحدة، وذلك فقط لأنه هو في حد ذاته حاكم متنمر، وسلطوي من الطراز الأول. وذلك هو السبب في رد الرئيس الفرنسي المتجهم على مزحة الرئيس بوتين، إذ قال إن فرنسا سوف تحمي نفسها وإنها تحترم التزاماتها حيال حلفائها الأوروبيين. ولذلك السبب لم يتأثر الإعلامي النمساوي أرمين وولف بتصريح الرئيس بوتين على الهواء. وانطلق الإعلامي وولف في استجواب الرئيس الروسي بشأن أوكرانيا، ودعمه لنظام بشار الأسد في سوريا، وإسكات المعارضة السياسية في روسيا.
إن سجل بوتين، وسياساته المعتادة، والمحن التي يكابدها منافسوه، تجعل من فرص التقارب الروسي الأوروبي شبه معدومة. وكتب كل من أندراس راكز وكريستي رايك في تقرير حديث صدر عن المركز الدولي للدفاع والأمن في إستونيا، يقولان: «يميل كل من المتشددين وأصدقاء روسيا في أوروبا إلى مساواة الحوار والتفاعل مع التنازلات والاسترضاء».
تعتبر كل من روسيا وأوروبا حلفاء بفعل الطبيعة وذلك لوجود عدد من الأسباب الجغرافية والاقتصادية والثقافية والعسكرية التي تقتضي الأمر. وتم الاعتراف بذلك على نطاق واسع خلال تجربة روسيا القصيرة للغاية مع الحرية في تسعينات القرن الماضي، حتى وإن كان لدى الزعماء في أوروبا أسباب قليلة في ذلك الوقت للبحث عن بدائل للولايات المتحدة أو لجلب روسيا المعدومة اقتصادياً والفوضوية اجتماعياً وسياسياً إلى مدار الاتحاد الأوروبي.

- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»