د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

البرامج التدريبية والبطالة

تُقاس متانة الاقتصاد بعدة مؤشرات مثل الناتج المحلي، ومعدل الفائدة، وأرباح الشركات، ومعدل الرواتب، ولعل أحد أهم هذه المؤشرات هو مستوى البطالة، والذي يعني الكثير للشعوب والحكومات بحكم ارتباطه بعوامل أخرى مثل معدل الإنفاق والجريمة والرفاه الاقتصادي للمواطنين. وكثيرا ما تُلمَّع الحملات الانتخابية بوعود بخفض معدلات البطالة، والتي قد تكون عاملاً أساسياً في التصويت الانتخابي. وترتبط هذه الوعود بخلق استثمارات وطنية وجلب استثمارات أجنبية لخلق فرص عمل للمواطنين. إلا أن معدلات البطالة قد لا تكون بسبب قلة الاستثمارات أو الكساد الاقتصادي، بل إن أحد الأسباب الأساسية لذلك عدم وجود قوة عاملة تحمل المهارات المطلوبة لسوق العمل، وقد أظهرت إحصائية لشركة «ماكينزي» أن 40% من الشركات تتذمر من أن عدم وجود الكفاءات العاملة هو السبب الرئيسي في وجود الشواغر لديها. فكيف للشركات أن تتذمر من انعدام الكفاءات وخريجو الجامعات العاطلون يزدادون سنة تلو الأخرى؟
يعود السبب الرئيسي في هذه المشكلة لوجود فجوة بين الجانب التعليمي والجانب الوظيفي، فالكثير من الشركات تبحث عن الموظف الجاهز للعمل، بينما تُخرّج الجامعات طلاباً يمتلكون الأدوات العلمية دون الخبرات، ولأجل ذلك أنشأ الكثير من دول العالم مؤسسات حكومية تُعنى بربط خريجي الجامعات والجهات التوظيفية من خلال برامج تدريبية لمدد تتراوح بين سنة وسنتين، يتمكن من خلالها الملتحقون بهذه البرامج من اكتساب خبرات تؤهلهم للالتحاق بسوق العمل بشكل تدريجي. فعلى سبيل المثال، أنشأت بريطانيا في عام 2009 مركزاً للربط بين الباحثين عن الوظائف وجهات العمل لحل هذه المشكلة، وتكفلت بدفع جزء من الرواتب الشهرية للمتدربين. كذلك فعلت دول أخرى مثل أستراليا وجنوب أفريقيا. ولكن ما حافز الشركات في تأسيس برامج تدريبية من هذا النوع في حال لم تسهم الحكومات في دفع جزء من هذه المبالغ؟
من الناحية المادية، فإن توظيف المتدربين أقل تكلفة من التوظيف الفوري، حتى وإن دفعت الشركة أجر المتدرب بالكامل. وعادةً ما تكون البرامج التدريبية غير إلزامية للشركات في التوظيف بعد نهاية البرامج، لذلك فهي فترة تجريبية تتيح للشركة معرفة صفات قد لا تبرزها السير الذاتية والمؤهلات الدراسية، مثل القدرة على الإبداع، والالتزام بمواعيد العمل، والإنتاجية، والمهارات القيادية وغيرها من المهارات الجوهرية في بيئة العمل. وتتنافس كبرى الشركات العالمية في جودة برامجها التدريبية لجلب المواهب لها، حتى إن بعض الشركات الصغيرة والمتوسطة تحرص على توظيف خريجي هذه البرامج التدريبية. كما أن الكثير من الخريجين قد يرضون بالعمل أو التدريب في هذه الشركات حتى لو كانت رواتبها منخفضة، وذلك لاكتساب الخبرات والمهارات التي تقدمها هذه البرامج ذات السمعة الطيبة. ولأجل ذلك فإن الكثير من الخريجين يُفتنون بالبرامج التدريبية التي تقدمها شركات مثل «غوغل» و«مايكروسوفت» و«دويتشه بنك» والكثير من شركات وادي السيليكون. وعلى الجانب الآخر، فإن المتدرب قد يرضى براتب أقل في بداية حياته الوظيفية مقابل اكتساب خبرة عملية، ودون هذه الخبرة، قد لا يجد المتدرب أي إغراء للتضحية بفارق الراتب. وفي كثير من دول العالم، تعد مرحلة العمل كمتدرب مرحلة جوهرية في الحياة الوظيفية، خصوصاً أن الوظيفة الأولى دائماً ما تكون الأصعب، ولذلك فإن الخريج قد يرضى بتقديم تنازلات مادية مقابل اكتساب مهارات تفيده على المدى الطويل وتدعم من سيرته الذاتية.
وفي كثير من الدول، يعد الربط الفعال بين المؤسسات التعليمية والجهات التوظيفية للعمل بمنظومة متكاملة خطوة مهمة في خفض مستوى البطالة، وتشير الإحصائيات إلى أن التدريب الوظيفي خلال المرحلة الجامعية هو أحد أنجح الطرق في الالتحاق بالعمل. والشركات بهذه البرامج التدريبية تتفادى مشكلة التسرب الوظيفي، والتي تسبب لها الكثير من الخسائر المادية، فحتى لو خرج هذا المتدرب من الوظيفة بعد فترة تدريبية، فهو لم يكلف الشركة الكثير من المادة. ولعل من الصعب إغفال الجانب السلبي لهذه البرامج التدريبية، حيث يستغل بعض الشركات مرحلة التدريب هذه في تعيين موظفين بهدف توفير التكاليف، دون إكسابهم خبرات حقيقية، ممنّيةً إياهم بوظائف قد لا يحصلون عليها على الأغلب. ويزداد هذا السلوك -عند بعض الشركات ذات الوظائف المرغوبة بين الشباب- إلى أن فترات التدريب كاملة قد تكون غير مدفوعة الأجر، إلا أن هذه الحالات استثنائية ولا يمكن رفض فكرة برامج التدريب بالكامل بسببها.
إن القوة العاملة هي المحرك الرئيسي للانتعاش الاقتصادي، ومن دونها لا يمكن لاقتصاد دولة أن يتحسن، وزيادة الفجوة بين القطاعين التعليمي والوظيفي ليس في مصلحة الشركات المحلية، ولا في مصلحة الحكومات، خصوصاً أن الأخيرة عادةً ما تسوّق للاستثمارات الأجنبية بوجود قوة عاملة محلية مؤهلة للعمل. وفي إنشاء مثل هذه البرامج زيادة للفعالية الوظيفية الوطنية، ودون تكلفة تذكر، فالجامعات والمؤسسات التعليمية متوفرة، والشركات بما فيها من خبرات بشرية كذلك، وقد لا يتطلب الأمر إلا وجود جهة إشرافيّة فعالة تقوم بدور حقيقي في الربط بين الخريجين وجهات العمل.