سمير صالحة
اكاديمي ومحلل سياسي تركي
TT

الانتخابات المحلية هاجس أردوغان الأكبر

الانتخابات المحلية التركية المقررة في الثلاثين من شهر مارس (آذار) المقبل، ليست مجرد تصويت لاختيار رؤساء بلديات يشرفون على الخدمات الحياتية اليومية في 81 مدينة، بل هي هذه المرة معركة تحديد مصير الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية المنتظرة في العامين المقبلين، وبالتالي مستقبل العدالة والتنمية وتفرده في حكم البلاد لأكثر من 13 عاما.
حزب العدالة أعلن الاستنفار العام باكرا في صفوف مناصريه وكوادره ورئيس الحزب رجب طيب أردوغان دشن حملته الانتخابية قبل أسبوع من خلال الإعلان عن أسماء المرشحين وسط طريقة استعراضية في تقديمهم والتعريف بهم. لكن المبارزة اليوم هي أبعد من قراءة المزاج السياسي للمواطن التركي وتحقيق مطالب القواعد الشعبية وكسب دعمها وتأييدها، الناخب التركي هو أمام جملة من الضغوطات تتجاوز مواقفه وخياراته الشخصية، هو وجها لوجه أمام قرارات ودعوات قياداته الدينية والفكرية والقومية شهرت السيوف في وجه أردوغان هي وجيش من الإعلام المعارض سن الأقلام استعدادا لمواجهة تصفية الحسابات التي قد لا تسنح له مرة أخرى.
أجواء هذه المرحلة تختلف عن أجواء ما قبل أربع سنوات وحزب العدالة والتنمية يعرف أن لا خيار آخر أمامه سوى تحقيق الفوز مرة جديدة على منافسيه، فرصته الوحيدة للرد على كل الحملات والسيناريوهات الداخلية والخارجية التي تتحدث عن تراجع شعبيته ونفوذه وفرصه في تحقيق حلمه الأكبر (إدارة شؤون البلاد حتى عام 2023) تاريخ الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية.
رجب طيب أردوغان سيحاول، من خلال تمرير حزمة الإصلاحات الدستورية والسياسية والاجتماعية قبل موعد الانتخابات المحلية، كسب القدر الممكن من أصوات العلويين والأكراد والأقليات الأخرى التي حملته مسؤولية إيصال البلاد إلى الطريق المسدود في موضوع إعداد دستور جديد بديل عن دستور العسكر المعمول به منذ 30 عاما. هو قد لا يتحرك باتجاه التحالف مع أحد الأحزاب لضمان فوزه وبقائه في السلطة، لكنه يخطط لانتزاع ما يمكن من أصوات الأحزاب القومية والعلمانية عبر توزيع الهدايا في هذه الحزمة التي ستثير نقاشات حادة تحت سقف البرلمان التركي في الأيام المقبلة.
انتصارات أردوغان وأعوانه في الانتخابات المحلية هي التي كانت دائما تعبد الطريق وتفتحه أمامهم للفوز في الانتخابات البرلمانية، وهزيمة غير متوقعة في مطلع الربيع المقبل ستعني اهتزاز مقعد الحكم وربما الأرض أيضا تحت الأقدام.
العنصر المشجع لأردوغان كان حتى الأمس القريب هو استعداد 50 في المائة من مجموع الناخبين الأتراك للإدلاء بأصواتهم لصالح حزبه، لكن استطلاعات مغايرة تتحدث عن تقليص المسافة مع أقرب منافسيه حزب الشعب الجمهوري وعن فوارق رقمية بسيطة في كثير من المدن الكبرى.
تسريب قرارات وتوصيات مجلس الأمن القومي التركي عام 2004 حول الحرب على جماعة فتح الله غولان، التي تحولت إلى عاصفة تهدد العلاقات بعدما تزايد عدد الأصوات الداعية للانتقام من أردوغان وحزبه، وقرار المحكمة الدستورية الأخير بانتقاد فترات توقيف واعتقال النواب الأتراك المتهمين بالمشاركة في عمليات إسقاط حكومة أردوغان وتراجع عدد الداعمين لمشروع النظام الرئاسي ستتحول كلها إلى أوراق انتخابية مهمة بيد المعارضة حتما.
هذا إلى جانب الأوراق الخارجية الكثيرة التي باتت المعارضة تلوح بها في وجه أردوغان وحزبه وفي مقدمتها الملفات السورية والمصرية والإسرائيلية وارتدادات ثورات الربيع العربي طبعا.
زيارة كمال كيليشدار أوغلو الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، التي التقى خلالها بكبار قيادات اللوبي الأميركي والإسرائيلي وأقرب أعوان المفكر الإسلامي فتح الله غولان وحديثه عن ضرورة التعرف إلى الصورة الجديدة للشعب الجمهوري، تدعمها الأرقام التي يعلنها القيادي اليساري حول تقدمهم في إسطنبول، التي يريدها رأس الحربة في معاركه الانتخابية القادمة نظرا لتأثيرها المادي والمعنوي على رسم الخارطة السياسية والحزبية الجديدة في تركيا، هذه المدينة التي تضم أكثر من تسعة ملايين ناخب، وحيث احتمالات المساومة والصفقات البعيدة عن الأضواء واردة طالما أن الهدف المشترك هو إبعاد أردوغان وحزبه عن الحكم مهما كانت الوسائل.
آخر التوقعات والتحليلات المنشورة في الإعلام التركي تتحدث عن 48 في المائة لصالح العدالة مقابل 36 في المائة فقط للشعب الجمهوري واحتمال حصول العدالة والتنمية على 47 مدينة، لكن المؤكد هو أن اللون الرمادي اتسعت بقعة انتشاره هذه المرة، فالمنافسة ستكون صعبة في أكثر من 10 مدن تناقلتها الأيدي أكثر من مرة مثل أضنة ومانيسا وأوردو وإسبارطة. كما أن «السلام والديمقراطية» الكردي يريد أن يحصن مواقعه في مدن جنوب شرق تركيا ويحاول الفوز في مدن عصت عليه حتى اليوم مثل ماردين وأورفة.
أردوغان يعرف جيدا أن المعارضة لن تتردد في تبادل الهدايا على حسابه هو عند الضرورة، والهدف هو فقط إضعافه وقطع الطريق عليه، ويعرف أيضا حجم الرغبة غير المعلنة في صفوف بعض القيادات العلمانية المدنية والعسكرية التي تتربص للانتقام من التصفيات والتهميش والإبعاد الذي تعرضت له في السنوات الأخيرة.
أوراق كثيرة لعبها أردوغان في الانتخابات العامة قبل ثلاثة أعوام بينها كسب غالبية أصوات النصر النسائي والاستفادة من تشرذم وأخطاء خصومه ومنافسيه والإنجازات المهمة التي حققها الإسلاميون في أكثر من مدينة تركية أشرفوا على شؤونها، لكن المشهد يختلف هذه المرة وربما هذا ما دفع أردوغان لتبني لغة جديدة في اختيار المرشحين في بعض الأماكن الحساسة التي يريد الاحتفاظ بها أو انتزاعها من يد المعارضة مثل هاتاي وغازي عنتاب وأرضروم، حيث حرك أهم الأحجار على رقعة الشطرنج وضحى بثلاثة وزراء مقربين وجههم إلى هذه المدن.
أشهر قليلة متبقية ستساعدنا على معرفة مسار العملية السياسية في تركيا ومن سيقود الدفة في العقد المقبل؟.