لينا الخطيب
رئيسة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، «تشاثام هاوس» - لندن
TT

الصراع حول رواية الحرب في سوريا

دخل الصراع السوري عامه الثامن وازداد عنفاً، وشهد انتشار مجموعات متطرفة عديدة لدرجة أن هناك خطراً أن تهيمن هاتان الناحيتان على قصة الصراع، ما يغطي على دور النشاط اللاعنفي في سوريا، ويتجاهل في الغالب تلك الجماعات والكيانات المسلحة الموالية للنظام. لكن قصة الصراع السوري يجب ألا تنحصر في شرّين اثنين؛ نظام قمعي في وجه «الجهاديين المتطرفين».
كتاب جديد صدر عن هذا الصراع على يد صحافية متمرسة، قضت سنوات داخل سوريا وعلى حدودها، يوثق الأزمة كما تطورت، وعلى الرغم من كونه ممتازاً إجمالاً، فإنه يبدو أنه يقع في هذا الفخ إلى حد ما.
وفي حين أن كتاب «لا عودة إلى الوراء: الحياة والخسارة والأمل في سوريا في زمن الحرب» للزميلة رانيا أبو زيد، لا يدّعي أنه يقدم رواية شاملة عن الصراع السوري (ويقول ذلك في قسم «الملاحظات» الختامي)، فإنه لا ينبه القارئ منذ البداية إلى أن القصة كما وردت في الكتاب ستكون قصة انتقائية. إن هؤلاء المحنكين في ديناميكيات الصراع السوري لن يواجهوا أي مشكلة في وضع الشخصيات المختلفة في الكتاب ضمن الصورة الأكبر للنزاع وملء الفراغات بأنفسهم. لكن بالنسبة إلى القارئ غير المتخصص الذي يلتقط الكتاب استناداً إلى عنوانه العام، فعند قراءة الصفحات القليلة الأولى عن ولادة الثورة السورية، هناك خطر من أن السرد المعروض في الكتاب ينتهي بتعزيز «الشرّين» كإطار تحليلي، لأن بداية الكتاب تعطي انطباعاً بأنها ستحكي قصة الثورة من زوايا مختلفة.
لا يعني ذلك أن المؤلفة لا تذكر غير الإسلاميين إلى جانب مقاتلي المعارضة ودورهم في عام 2011، لكنها تحدّ عددهم إلى شخصيات ثانوية (مثل أقارب فتاة عمرها تسع سنوات، وهم ضحايا الصراع)، وإلى شخصية رئيسية واحدة (سليمان، الذي أدى نشاطه اللاعنفي إلى سجنه ومن ثم إلى تحوله إلى لاجئ)، وبالتالي تصبح كلها شخصيات مفعولاً بها أكثر منها فاعلة. الشخصيات الرئيسية الأخرى على الجانب غير النظامي في الكتاب هي إسلامية التوجه، ولا توجد شخصيات رئيسية تنتمي إلى الجماعات المسلحة الموالية للنظام. كل هذا يجعل الجو العام للكتاب يقدم الثورة كحدث يغلب عليه الطابع الإسلامي المتشدد باستثناء الأسبوع الأول.
تبرر الكاتبة اختيارها بالقول إنها ركزت على الشخصيات التي دفعت الصراع إلى الأمام. لكن حتى لو لعب النشطاء اللاعنفيون دوراً أقل في سوريا على مدى السنوات السبع الماضية، لكان من الأفضل الاعتراف به وبنطاقه المحدود بدلاً من حذفه إلى حد كبير. فلا توجد قصص بارزة حول اعتقال النظام وتعذيبه نشطاء المجتمع المدني (سليمان ليس ناشطاً في المجتمع المدني)، أو عن استهدافهم من قِبل بعض الجماعات الإسلامية المتشددة. إحدى الشخصيات على سبيل المثال تعيش في سراقب، إحدى البلدات السورية التي تصدى سكانها لـ«جبهة النصرة»، لكن الكتاب لا يقول الكثير عن المجتمع المدني هناك وجهوده في مقاومة محاولات «النصرة».
لا شك في أن المؤلفة، كما تقول هي نفسها في قسم «الملاحظات»، قد تأكدت من القصص التي نقلها لها الأشخاص الذين أجرت معهم مقابلات في الكتاب، لكن من المدهش أنها أحياناً لا تتحدى بعض التصريحات المشكوك فيها من قِبلهم. على سبيل المثال، لا تتحدى تصريحاً من أحد الذين قابلتهم يزعم أن أولاد درعا الذين اعتُقلوا وعُذِّبوا في مارس (آذار) 2011، مما أثار الغضب الذي بدأ الثورة، «لم يكونوا بالفعل أولاداً» (هناك ذكْرٌ لاحقاً أنهم كانوا مراهقين، وبالطبع لا يزال المراهقون غير بالغين قانونياً)، ولا تعترض على قول الشخص الذي تنقل كلامه إنهم تعرضوا فقط لـ«تعذيب عادي» عندما وجدهم في السجن لأنه - وفقاً له - لم يتم سحب أظافرهم في أثناء القبض عليهم. منذ متى كان أي شكل من أشكال التعذيب «عادياً»؟ إن عدم تحدي هذا التوصيف للمعاملة في أثناء الاعتقال يخالف مباشرة وصفاً صريحاً يُتبع في الصفحات التالية للأفعال المروعة التي ينطوي عليها التعذيب «العادي». وهذا يعطي الانطباع بأن مستوى «عادي» من التعذيب هو شيء اعتاد عليه الشعب السوري ولم يكن هناك سبب يدعو إلى الغضب كردة فعل على ما حصل لأولاد درعا.
على الرغم من أن المؤلفة لا تتورع عن وصف وحشية النظام السوري، فإنها تقدم بعض التطورات بطريقة تحاكي سرديته. فهي مثلاً تقدم تشكيل «الجيش السوري الحر» عبر الحديث عن تشكيل «كتائب الفاروق»، مما يجعل الأمر يبدو كأن «الجيش السوري الحر» بدأ حياته كمجموعة من المدنيين الذين حملوا السلاح (وهو كيف تم تشكيل «كتائب الفاروق»؟)، بينما بدأ «الجيش الحر» كمجموعة من المنشقين عن الجيش النظامي الذين انضم إليهم في وقت لاحق الأفراد والمجموعات من غير الجنود مثل «كتائب الفاروق»، والتي تزايد عددها عبر السنين.
وعلى الرغم من أن قدرة الجيش السوري قد انخفضت إلى خُمس ما كان عليه قبل عام 2011، سواء بسبب هجمات المتمردين أو بسبب الانشقاقات، سعى النظام بنشاط إلى تشويه سمعة «الجيش السوري الحر» من خلال وصفه بأنه كان دائماً مجموعة من المسلحين من غير الجنود النظاميين.
كما تُظهر أبو زيد في الكتاب أن أجهزة الاستخبارات السورية قامت بتهريب عملاء «القاعدة» قبل عام 2011، وأرسلتهم إلى العراق «لإبقاء الأميركيين منشغلين» وبعيداً عن سوريا. ثم تصف انفجاراً وقع في دمشق في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2011، بهجوم تم تنظيمه من قِبل «جبهة النصرة» (في الواقع لم تعلن المجموعة عن تشكيلها حتى عام 2012، لكن يبدو أن المؤلفة تعني أن الأشخاص الذين نفّذوا الهجوم كانوا في مرحلة تشكيل لما أصبح «جبهة النصرة»). أليس من الممكن أن يكون النظام قد سمح بهذا الهجوم بشكل مباشر أو غير مباشر لإثبات صحة روايته بأنه يحارب الإرهابيين وليس يقمع الناس؟ يبدو أن المثالين المذكورين أعلاه يوضحان كيف أن سردية النظام أصبحت «طبيعية» في الجدل العام حول سوريا.
ومن المفارقات أن كلاً من النظام و«النصرة» لهما مصلحة متساوية في نسب الحادث إلى «القاعدة». في بعض الأحيان يريد أعضاء أي مجموعة مناهضة للنظام أن يعرضوا جماعتهم على أنها فعالة ومؤثرة، وأنها شاركت في الثورة بطريقة بارزة منذ البداية، لأن هذا يعطي مجموعتهم الشرعية. هذا هو الحال على وجه الخصوص بالنسبة إلى «جبهة النصرة»، التي تبني مصداقيتها على فكرة أنها كانت دائماً تحارب النظام، وأنها من أعمدة الثورة، وهو ما يكرره أعضاؤها والمتعاطفون معها.
لا تهدف هذه الانتقادات إلى التشكيك في غالبية ما ورد في الكتاب، وهو جيد ومهم. ولكن من خلال التركيز بشكل أساسي على جانب واحد من رواية الصراع السوري دون جعل هذا التحديد واضحاً منذ البداية، ومن خلال تقديم بعض التعليقات ووجهات النظر دون تحديها، ينتهي الكتاب بنسج حكاية منحرفة إلى حدٍّ ما حول الثورة السورية.
هناك العديد من الكتب التي لديها عناصر أكثر إشكالية بكثير من تلك المحدودة في هذا الكتاب، والكتاب ينجح في كيفية إحياء تطور الجماعات المتمردة المختلفة في سوريا من منظور ميداني. ولكن في بعض الأحيان، فإن السرد الذي لا يعطي الصورة الكاملة دون تحديد ما هو محذوف، والذي يحتوي على بعض الأخطاء أو يتغاضى عن بعض الفروق الدقيقة على الرغم من كونه في الغالب دقيقاً، يمكن أن يكون مضللاً للقارئ العام. إذا أرادت الكاتبة التركيز على البعد الإسلامي للنزاع، كان ينبغي عليها أن توضح ذلك منذ البداية وأن تعطي الكتاب عنوانا أكثر تحديداً.
ويبقى الكتاب قيماً بسبب توثيقه الدقيق للمسارات الشخصية للشخصيات التي يركز عليها، مما يميزه عن تلك الكتابات عن الجماعات المتمردة التي تقدم أعضاءها دون هويات أو دوافع فردية. سيجد القراء المتخصصون في هذا الكتاب ثروة من المعلومات المفيدة. لكن الإشكاليات التي تثار هنا بشأن محتوى الكتاب تذكّر بأن إحدى المعارك القادمة في الصراع السوري لن تكون عسكرية، وإنما معركة حول السرد والتذكر.