فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مداخلة حول تعليم الفلسفة في السعودية

لم تكن علاقة الفلسفة بالمجتمعات على ما يرام، بل حُوربت منذ بدئها بوصفها عملية خلق للحكمة، وجذوة دهشة مستمرة، واشتعالاً لا ينطفئ لسؤالٍ موحش. حارب البعض الفلسفة بوصفها طريقاً نحو الضلال، كما يروى عن الشافعي أنه حكم بضرب المتفلسفين بالجريد والنعال، بينما لولا منطق أرسطو لما استطاع الشافعي تدوين متن «الرسالة» الكتاب الأهم في تاريخ التأسيس لأصول الفقه.
هذه الأيام، ومع التحولات الاجتماعية في السعودية، ثمة مطالبات عبر الإعلام لوزارة التعليم أن تبدأ بخطة لتدريس الفلسفة في الثانويات والجامعات، وهذه دعوة مهمة ومؤيدة وأساسية بلا نزاع، فتدريس الفلسفة أمرٌ ضروريٌ من الناحية التعليمية، وقد سبقتنا لذلك دول عربية عديدة في الشام وشمال أفريقيا، وحتى بعض دول الخليج، وعليه فإن تدريس الفلسفة من الجانب التعليمي أمر مطلوب، ولكن للفلسفة أسئلتها حول عثرات تدريسها والمشكلات التي تواجهها.
بالطبع كان الفلاسفة يدرّسون نظرياتهم منذ الأكاديميات الإغريقية الصغيرة وحتى قاعات الدرس التي حوّلت مسار الفلسفة في القرون الثلاثة الأخيرة لدى هيغل وشوبنهاور وشلنج وفيخته وفيورباخ وهابرماس ودلوز وفوكو ودريدا وراولز، وسواهم، إلا أن الفلسفة تتحسس من عبارة «التعليم»، وهنا تأتي المخاتلة أن نلاحظ ردة فعل الفلسفة على تعليمها.
إن المجال الفلسفي حقل أسئلة، وباحة حوار، وورشة نقاش، وفي معرض التداول الفلسفي تتساوى الرؤوس، وتنعدم الحقيقة (بأل التعريف). والتعليم ببنيته يحتاج إلى حدٍ أدنى من الحقائق ليكررها ويروجها، والفلسفة لا تحتوي على ذلك، وإنما تضمن في جوفها تاريخ ألفين وخمسمائة سنة من الصراع حول النار والكون والضوء والشمس والفلك والوجود واللغة والزمن والموت. والفلسفة ليست واحدة حتى يتم تعليمها، بل إن كل نظرية تُخلق تعتبر فلسفة بذاتها، فالفلسفة تاريخ من الاحتمالات والأخطاء والتجارب والمواجهات والإخفاقات، وآية ذلك أن موجاتٍ فلسفية حين تم تدجينها شعبوياً اشتهرت ثم سرعان ما خفت إشعاعها، مثل الوجودية، والوضعية المنطقية، والفلسفة التحليلية، وقل مثل ذلك عن الموجات المتقاطعة مع الفلسفة مثل البنيوية.
سبعون عاماً مرّت على تدريس الفلسفة بالعالم العربي؛ لم تكن النتائج مرضية، وذلك لسبب أساسي أن تعليمها بقي ضمن مسار التلقين والحفظ، أو على الأقل التقديس للحقائق المعطاة، ولم تشحذ هذه الحصص الصفّية لتكون مجالاً لإطلاق عنان الخيال الخصب لدى الطلاب أن يبوحوا بما يروق لهم من أسئلة ترد على خواطرهم، وهذا بنظري ممتنع لدى المجتمعات العربية والإسلامية، بل يكاد يكون موضع عقاب حاد، ولهذا فإن الفلسفة في حال تخصيص حصص لها تحتاج إلى مناخٍ عام يمكن الطالب من التناول الحر لأي سؤال، والرد والتجاوز والاستنكار، وهذه البيئة هي التي تخلق إمكانات تحول الفلسفة إلى مجال متطور، ويمكن حينها ملاحظة مردود معقول جراء تدريس الفلسفة أو تعليمها.
جيل دلوزن، فيلسوف فرنسي مؤثر، رحل عام 1996، درّس في الثانويات بداية، ومن ثم صار يحاضر في السوربون، لديه فيديوهات على «يوتيوب» توضّح كيف كان يدير حلقة الدرس الفلسفي، على طاولته يتحلق الطلاب خارج الكراسي المعدة، ويحدث أن يتربّع جالساً على الطاولة، وقد اصطفّ الطلاب وقوفاً على مدار جلسته.. لديه كتاب بات مرجعاً كلاسيكياً في تجديد التعريف الفلسفي، وهو بعنوان «ما الفلسفة» بالشراكة مع فليكس غيتاري، وعلاوة على تعريفه الشهير للفلسفة، بوصفها خلق أو صناعة المفاهيم، فإنه يبحث في الاضطراب بين الفلسفة والعلم، فالعلم لديه: «ليس موضوعه المفاهيم، بل الوظائف التي تتمثل كقضايا في أنظمة خطابية معينة، وتدعى عناصر الوظائف بالوظيفية (Fonctifs)، فالمفهوم العلمي يتحدد ليس بالمفاهيم، وإنما بوظائف أو قضايا، إنها فكرة متنوعة جداً، معقدة جداً، كما يمكن أن نرى ذلك في استخدام هذه الوظائف والقضايا من قبل كل من الرياضيات والبيولوجيا وعلم الأحياء... ليس العلم بحاجة إلى الفلسفة أبداً في هذه المهمات». ومنه مقولة هيدغر: «العلم لا يفكّر»، وهذه ليست إدانة أو انتقاصاً من المجال العلمي، وإنما لتسجيل الاختلاف ضد التداخل بين المجالين بوصفهما ضمن وظائف وبنى مختلفة، والفلسفة كما يصف دلوز لديها «مهمة جينالوجية دائمة».
ومن هنا تكون الفلسفة ممانعة أحياناً من التبويب الذي يحصرها، من السجون التي تخنقها، ومن ذلك حدها بالتعريف العلمي، أو حجرها في الصفّ التعليمي، ولذلك فالفلسفة حليفة التمرد، تتأبى على السكون، فهي مع الموج والريح والنار، وليست مع الأسن والجمود والرماد، والتعليم كله في جذره جمود، بيد أن الذي عزز من حضور الفلسفة في الجامعات والمدارس في أميركا وأوروبا تلك النجاحات الخارقة للفلاسفة بكيفية التناول للمعنى والمفهوم الفلسفي حتى نراهم يطوّرون محاضراتهم بناءً على نقاشاتهم مع تلامذتهم في قلب الدرس، كما فعل الفلاسفة الألمان، بوصفهم ممن برع في تحويل القاعة إلى مجال خلق ودرس وتداخل حتى مع المجال العام، كما يروي غادامير تلميذ هيدغر والمعاصر لجمع من كبار الفلاسفة الألمان، وذلك في كتابه «التلمذة الفلسفية».
باختصار، فإن تدريس الفلسفة يحتاج إلى مناخ حر، وإلا فإن الكليات في إسلام آباد وكابل وطهران تدرّس الفلسفة... من الضروري تحرير المناخ من القمع المعرفي، مثل ذلك البدء بتدريس الفلسفات الشرقية في الهند والصين والشرق القديم. ومن ثم المرحلة السقراطية ثم أفلاطون وأرسطو، والرواقية، والأبيقورية، وصولاً إلى القرون الوسطى حيث أوغسطينوس ودينيس سكوت ووليم أوكام ونيقولا دي كوسا. ومن ثم عصر النهضة وبدء التأسيس لنظرية المعرفة منذ استقرائية فرانسيس بيكون وإلى ديكارت وليبنتز وهوبز ولوك وبريكلي وديفيد هيوم وسميث وباسكال وفولتير ومنتسكيو وروسو، ومن ثم كانط، ومن بعده من الفلاسفة الألمان حتى شوبنهاور ونيتشه وديلتاي، وفي القرن العشرين تنفجر الفلسفات المهمة للنقاش في الأكاديميات والثانويات، مثل الظاهراتية لهوسرل، وتحليلية راسل، ونظرية منطق اللغة لفتغنشتاين، وفلسفات الاختلاف التي عرفت بالموجة ما بعد الحداثية، وهكذا تكون العملية قد أخذت مساراً ممكناً وأولياً ومدرسياً تستطيع مع شحّه ومع كونه نظراً بدائياً أن تنطلق منه إلى التأسيس وشحذ السؤال... وعلى حد تعبير دلوز: «إن المفاهيم استواءات من دون درجات، إحداثيات من دون تراتب، من هنا تأتي أهمية الأسئلة في الفلسفة».