مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

ماذا بعد الانتخابات المصرية؟

أودّ الكتابة عن الانتخابات الرئاسية المصرية، وذلك لأن الاستقرار السياسي في بلد بأهمية وحجم وعدد سكان مصر، الذي بلغ المائة مليون، هو أمر مهم في نظري، ومع ذلك أتردد كثيراً لأن فكرة التحليل السياسي اليوم لم تعد أمراً يفتح آفاقاً للتفكير في حالة الاستقطاب والتربص التي تسيطر على منطقتنا هذه الأيام، فهل يمكن أن يتناول المرء أمراً عادياً مثل نتيجة الانتخابات الرئاسية، دونما الوقوع في شرك التربص؟
إعادة انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي لفترة رئاسية ثانية هي أمر مهم بالنسبة لاستقرار مصر، ولكن استقرار الدول لا تصنعه السلطة التنفيذية وحدها بقدر ما هو محصلة لتفاعل السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، وبهذا الترتيب. التحدي الأكبر أمام الرئيس السيسي هو فتح المجال السياسي بما يسمح لبقية السلطات أن تجد نفسها، وتكون قادرة على صنع توازن بين السلطات، يجعل فكرة الاستقرار مسألة مؤسساتية. فاستقرار المؤسسات هو الذي يؤدي إلى استقرار الأوطان.
فكرة الدساتير هي تركيب ميكنة تدور، بغض النظر عن من يقود هذه الميكنة من الأفراد، وبهذا لا يكون هناك خوف على دولة ما إذا كان اختفى قائد فيها، لأن المؤسسات هي التي تحكم. الأساس في الحكم هو استمرارية المؤسسات وقدرتها على التعامل مع التحديات وامتصاص الصدمات.
دائماً ما كانت الدراسات الغربية التي تتناول منطقتنا، خصوصاً مصر، تركز على شخصية الحاكم، مع تجاهل شبه كامل للمجتمع ولمؤسسات الدولة بمعناها الواسع، وكنا دوماً ننتقد هذا المنهج على أنه استشراقي وعنصري، ومن هنا يجب ألا نقع في ذات الفخ، ونحن نتحدث عن مجتمعاتنا.
مفهوم أن مصر، وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني)، لم تتعافَ بعد، وتحتاج إلى فترة نقاهة واستشفاء اقتصادي وسياسي، ولكن ليس هذا هو التحدي الوحيد في مصر.
أول تحديات مصر اليوم هو القدرات البشرية، فمقارنة ببقية دول الإقليم يحتاج معظم المصريين إلى إعادة تأهيل لسوق العمل الجديد. وقد كتبت في مقال الأسبوع الفائت أنه لم يعد السؤال هو أن تسأل ابنك أو بنتك ماذا تريد أن تكون عندما تكبر، فأياً كانت الوظيفة التي يحلم بها، فلن تكون موجودة عندما يكبر، وقلت إن السؤال الصحيح هو كيف تريد أن تكون عندما تكبر، بمعنى أي حياة يريد هذا الطفل أن يحياها؟ في مصر وللأسف هناك قبول بالحالة القائمة رغم تدني مستوى التعليم ومخرجات الجامعات ومدى ملاءمتها للحياة الجديدة. هناك حالة من التصفيق لما هو قائم، فليس في الإمكان أبدع مما كان.
مهم لقيادات منطقتنا، وليس مصر وحدها، تقريب من ينتقدونهم بجدية إليهم، فالحكم من دون نقد جاد يفقد بوصلته، كما أن آلة التصفيق تخلق وهماً صوتياً يقود إلى الهلاك غالباً. قدرة الحاكم على تقبل النقد وتفهم أطروحات السياسات البديلة (alternative policy options) هي بداية الطريق للوصول إلى حالة الاستقرار من خلال قدرة النظام على تصحيح مساره أوتوماتيكياً، وهذا ما يجعل الأنظمة في البلدان الحديثة أكثر استقراراً.
لكي تصل مصر إلى حالة الاستقرار المنشودة، هناك ثلاثة أمور لا بدّ من التعامل معها، أولها هو تنقية بيئة الحكم، وبناء ثقافة حكم أساسها التراضي والقبول بقواعد اللعبة. الأمر الثاني هو السماح لمزيد من اللاعبين بالظهور لإثراء المجال. الأمر الثالث يخص طبيعة توزيع الأحمال. فالأنظمة السياسية، كما السيارات، توزع أحمالها على عجلات أربع. لنقل عجلتان للسياسة واثنتان للأمن، آخذين في الاعتبار تحدي الإرهاب والعنف في بلداننا. تحميل النظام السياسي على عجلتي الأمن فقط يؤدي إلى انقلاب العربة، لذا يجب أن توزع بقية الأحمال على عجلات السياسة حتى يحدث التوازن.
بعد إنهاء الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في مصر، مطلوب جرأة في تغيير معادلة الحكم وتوزيع الأحمال حتى يحدث الاستقرار المنشود، ولا بدّ من القبول بالنقد الجاد حتى نسير في الطريق الصحيح، ونصل إلى ما نصبو إليه.
مصر تحتاج بعد الانتخابات الرئاسية إلى حوار وطني جاد وجديد يتناول تحديات دولة بحجم مصر وتعداد سكانها وقدراتها، مطلوب إعادة قراءة لمحركات المشهد برمته من زواياه الثلاث: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
مطلوب أيضاً إعادة بناء منظومة القيم الحاكمة للحوار الاجتماعي والسياسي، فمن دون إعادة بناء منظومة القيم هذه فلا جدوى من الحوار.