خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أول مرة

إذا كنا نلاحظ في هذه الأيام روح الرجعية والأصولية والطائفية تسيطر وتسود الساحة، فإن أياماً مضت قبلها ميّزت المنطقة بروح الوثوب والتعطش إلى الجديد والتجديد. ما أن خرجت المنطقة من ظلمات العهد العثماني حتى فتحت أبوابها للتطور والعصرنة وكل شيء جديد. راحت تتردد على ألسن المؤرخين كلمة «لأول مرة». لكن ذلك لم يقع من دون مقاومة. رووا فقالوا إن الناس رأوا لأول مرة قوالب الثلج الصناعي. كان الباعة يقطعونه بالمنشار ويبيعون قطعاً قطعاً. كان الناس يشترون القطعة ويضعونها في الزير ليشربوا منه ماء مثلجاً. لكنهم سرعان ما اعتبروا ذلك تأخراً وشيئاً بدائياً.
أخذوا يصنعون صناديق الثلج الخشبية المبطنة بالصفيح. يضعون قطعة الثلج فيها مع الفواكه وقناني الماء والشربات. فيشربون ويأكلون كل شيء مبرداً. وحفر العمال قنوات مدوا فيها أنابيب الماء الصافي لتزويد البيوت بالماء. قضوا بذلك على مهنة السقاة الذين كانوا يزودون البيوت بقرب الماء من النهر والترعة. راح السقاة يحاولون مقاومة إسالة الماء فيقولون إن ماءها يجذب الأمراض ويقضي على رجولة الرجال. لم تنفع إشاعاتهم. وأصبحت الحنفيات وأنابيب الماء لأول مرة جزءاً من حياتنا. لكن السقاة تحولوا إلى باعة وموزعين لقوالب الثلج.
بعد برهة وجيزة من الزمن، أصبح صندوق الثلج مظهراً من مظاهر التخلف. لأول مرة رأينا الثلاجات الكهربائية تدخل البيوت والمقاهي. ويقال إن الحاج عبد الرزاق الدوري كان أول من أدخل الثلاجة في بيته في بغداد، وراح يفرج الجيران عليها. خير! خير من الله! قولوا معي يا سبحان الله! سمعت والدتي رحمها الله تقول.
ولأول مرة راح صناع الفوانيس يتوقفون عن صنع الفوانيس واللمبات ويغلقون دكاكينهم، وكله رغم حملتهم في ترويج الإشاعات ضد الكهرباء في أن كل من يمسها يموت في الحال وستخرب مكائن القوة الكهربائية. لكنهم سرعان ما تأقلموا مع الظروف الجديدة، بعد أن أيقنوا بأنهم يخوضون معركة خاسرة ضد هذه البدعة الرهيبة، القوة الكهربائية. بدلاً من صناع الفوانيس واللمبات، ظهرت فئة عمال الكهرباء. إذا كانت الكهرباء قد انتشرت بسرعة وأنارت الشوارع ودخلت حتى المساجد والجوامع، فإن تلك الشعبية لم تصحب استعمال التليفون واضطرت الدولة إلى تشجيعه بمنحه مجاناً لكثير من موظفيها. وكان أول من تسلم هذه المنحة في العراق السيد هاشم العلوي. زودوا بيته بالهاتف بصفته مدير شرطة على اعتبار حاجته مهنياً إلى الهاتف. ثم راحت الشركة تعطي 750 فلساً لكل من يأتيها بمشترك جديد، فما أن أطل عام 1930 حتى كان التليفون بلونه الأسود قد دخل لأول مرة 1100 بيت.
غير أن التطور الرهيب جاء في ميدان المواصلات ووسائط النقل. شهد المواطنون لأول مرة القطار والسيارات وأخيراً الطائرات. وأثارت هذه البدع قرائح الشعراء والمطربين فانبرى معروف الرصافي في قصيدة طويلة وصف فيها القطار بهذه الكلمات:
وقاطرة ترمي الفضا بدخانها
وتملأ صدر الأرض في سيرها رعباً!
لها منخر يبدي الشواظ تنفساً
وجوف به صار البخار لها قلباً!