د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

فكرة الإنسان القيمة بين التفقير والتثمين

إذا أردت تحديد قيمة أي ثقافة أو حضارة معينة فإن أول مقاييس التحديد تتمثل في التساؤل عن قيمة الإنسان في تصورات هذه الثقافة والحضارة. وبناء عليه، فإن أفضل الثقافات هي ما كان الإنسان فيها أعلى قيمة وأن يكون مقياس كل شيء بمعنى أن يكون هو القيمة ذاتها.
هذه الفكرة قد تبدو بسيطة وبديهية في ظاهرها ولكنّها في الحقيقة عكس ذلك، بل إن كل المشاكل الثقافية والتوترات الاجتماعية وحالات الانفصام الاجتماعي إنّما تعود بالأساس إلى وجود مشكل في كيفية تصور تلك الثقافة والممارسات الاجتماعية لتلك الثقافة في مدى تثمين الإنسان بلفت النظر عن خصائصه الاجتماعية. فكون ثقافة تستند إلى قيمة أساسية مفادها أن الإنسان مقياس كل شيء، هذا يعني أن تلك الثقافة تجاوزت تعقيدات كثيرة.
هذه الفكرة هي ما يعبر عنها فكرياً وفلسفياً بالأنسنة. وهي كفكرة قديمة هناك من يؤرخ بداية طرحها إلى الفلسفة اليونانية، كما نجد على امتداد التاريخ الإنساني ثورات ومشاريع فكرية انتصرت للإنسان ودافعت عن إنسانيته وإن كان ذلك ليس بشكل واضح وصريح مثلما عبر عن ذلك مذهب الأنسنة. ولعل أول ملاحظة يمكن تسجيلها أن فكرة الأنسنة تظهر وتختفي في التاريخ الفكري الثقافي للبشرية، مع الإشارة إلى أن ظهورها يتزامن مع لحظة الانفتاح والإبداع الحضاري لمجتمع ما وفي لحظات التراجع يتم التخفي.
فما معنى الأنسنة؟ يعرف المعجم الوسيط الأنسنة بأنّها الارتقاء بعقل الإنسان وتهذيبه ومعاملته كإنسان له عقل يميزه عن بقية المخلوقات. فالفكر الأنسني ينتصر لكل القيم التي تعيد الاعتبار للإنسان. كما تعني فك الارتباط مع ثقافة التمايز والتمييز وتوزيع الأدوار والسلطة وتذليل المعوقات المشار إليها أمام إبداع الإنسان في المجتمع والعالم.
الحدث الأكبر في مسار فكر الأنسنة هو الحداثة من دون منازع. فالحداثة أكثر المنظومات الفكريّة تمجيداً للإنسان: الحداثة لو أردنا اختزالها يمكن القول إنّها تقوم على ثلاث أفكار وقيم أساسية هي الإنسان والعقل والحرية. ولكن هذا الحدث على أهميته وقوة تأثيره في الانتقال من شكل المجتمع التقليدي المحافظ إلى التحديثي أو الحداثي وما عرفه ويعرفه هذا الانتقال التدريجي المستمر من مشاكل وتعقيدات وتردد، هو في النهاية يحمل مقاربات مجتمعات للعلاقة بين الفرد والمجتمع: موقع الفرد في هذه العلاقة وإلى أي حد يبدو فاعلاً رئيسياً أم على شاطئ الفعل الاجتماعي دون عمقه.
اليوم رغم الضجيج العالمي حول حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية الضامنة لحقوق المرأة والأقليات وللحقوق الثقافية فإن واقع الأنسنة يعرف مشاكل عدّة. غير أن هذه المشاكل تختلف من الفضاء الثقافي الأوروبي والغربي عموماً عن الفضاء العربي الإسلامي. فيما يخص المجتمعات الأوروبية، فإن الإنسان هو المركز والمشكل يبقى في السياسات لا في علاقة النّسق الثّقافي الاجتماعي للأنسنة والإنسان.
بالنسبة إلينا المشكل مختلف: نحن مكبلون بثقافة التمايزات وما زلنا نولي الولاء الأكبر للمؤسسات على حساب الفرد والإنسان الذي نتعاطى معه خارج نظرة المركز. تحتاج الثقافة العربية إلى مراجعة علاقتها بالأنسنة ومنزلة الإنسان فيها: الإنسان دون النظر في خصائصه. الإنسان رجلاً كان أو امرأة. الإنسان بصرف النظر عن انتمائه الفكري. الإنسان سواء كان مالكاً للثروة أو معدوماً منها.
إن ثقافتنا المتوارثة ينقصها تثمين الإنسان وتجاوز مظاهر الخلل في توزيع الأدوار والثروة بين الناس.
هكذا تبدو لنا ثقافتنا رغم أن الدين الإسلامي كركن أساسي في هذه الثقافة قد كرم الإنسان واعتبره عزّ وجلّ خليفته في الأرض. بل إنّه في حديث صحيح يُذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتْل مؤمنٍ بغير حق». وهنا لا بد من التلويح إلى أن المشكل الأكبر يكمن في التصور الأنثروبولوجي للإنسان في ثقافتنا، فنحن سلالة ثقافة تمجد الجماعة والفرد فيها خارج مدار سلطة المركز.
نحتاج إلى بناء ثقافة تتغنى بالإنسان وتحتفي به وتقدره وتعترف به وتتفاعل معه. نسجل في ثقافتنا حضوراً متضخماً لمؤسسات الأسرة والمؤسسات السياسية والإنسان كأنه مهمل.
لم نعِ جيداً إلى حد الآن كم هي مهمة فكرة الإنسان والإنسان كفكرة، لأن من يتربى على ثقافة أن الإنسان هو القيمة الأعلى سيكون أكثر قدرة عاطفية وذهنية على التواصل مع ذاته والآخرين. ولن يكون للمرأة مشكل مع الرجل ولا للرجل مشكلة نفسية اجتماعية مع المرأة ولا مشكلة مع أي عنصر اختلاف وتمايز، إذ أن الفرد المرتوي بفكرة أن الإنسان هو المعيار والمقياس والقيمة لن يتأثر بالتمايزات لأنه غير معني بها بقدر اعتنائه بالإنسان كيفما كان وأينما كان.
توصف المجتمعات العربية بكونها مجتمعات أبويّة: الرجل يهيمن على أشكال السلطة المختلفة. مجرد هذا التوصيف في حد ذاته هو دليل ضعف الأنسنة في مجتمعاتنا.
المطلوب مجتمع إنساني في تصوره للإنسان؛ ذلك أن إدراك الإنسان من وراء قضبان الأدوار والمواقع الاجتماعية يستبطن طبيعة تجارب التفاعل الاجتماعي وهي طبيعة تقوم على التوتر. فالتمايزات تقتل الإنسان فينا وفي الغير. وقبل النضال من أجل الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان نعتقد أنه منهجياً لا بد من الانطلاق من تثمين فكرة الإنسان عند الناشئة، وهو تثمين يحتاج إلى توعية مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأكثر تأثيراً اليوم في السلوك والمشاعر والمواقف.
إنّ الأنسنة ليست شعاراً يُتبجح به، بل طريقة في الحياة وفي التعامل وفي التواصل قائمة على تقدير الإنسان.. طريقة تنقل إلى الأجيال ويُتحاور فيها فكرة وسلوكاً.