شذى الجبوري
صحافية عراقية عملت سنوات في بغداد ولندن والآن تغطي الشأن السوري
TT

تكافل الغرب

ذهبت قبل يومين للتسوق من «تسكو»، واحد من أكبر محلات السوبر ماركت في بريطانيا. عند المدخل وجدت عددا من المتطوعين، أغلبهم من كبار السن، يوزعون قسائم «مصرف الغذاء» على المتسوقين.
الفكرة بسيطة جدا مضمونها أن تتسوق ما تحتاج لنفسك وأسرتك من هذا السوبر ماركت لكن تشتري حاجة واحدة، أو أكثر حسب رغبتك، من المواد المدرجة في القسيمة سواء من مواد غذائية مجمدة أو معلبة أو زينة عيد الميلاد أو كعك الميلاد أو مواد منزلية أو منتجات العناية الشخصية وما شابه، ثم تدفع ثمنها مع بقية مشترياتك وتسلم حصة «مصرف الغذاء» إلى متطوعيه في الباب الذين بدورهم يوزعونها على المحتاجين والأسر المتعففة لتغطية احتياجاتهم وإدخال البهجة إلى قلوبهم مع اقتراب أعياد الميلاد.
اشتريت علبة لحم مقدد ومناديل ورقية وسلمتهما للمصرف ولم يكلفني الأمر سوى بضعة جنيهات إسترلينية لكن السعادة التي ارتسمت على وجوه هؤلاء المتطوعين وكلمات الشكر التي أغرقوني بها أشعرتني وكأنني تبرعت بمليون جنيه. ومناخ الفرح هذا لم يقتصر على المتطوعين فحسب بل شمل المتبرعين أيضا الذين وقفوا في طابور لتسليم ما لديهم وهم يشعرون بالاعتزاز لأنهم يساهمون في إسعاد الآخرين ورفع العبء عن كاهلهم عبر تبرعات بسيطة لن ترهق ميزانيتهم الأسبوعية، لكنها ستعني الكثير بالنسبة للمحتاجين.
صورة، لا أروع منها، تعبر عن أخلاقية هذا الشعب وشعوره بالمسؤولية إزاء الآخر، والأمثلة كثيرة لا سبيل لحصرها.
مؤخرا عرض نجم كرة القدم، الإنجليزي ديفيد بيكام، وزوجته فيكتوريا ملابسهما وأغراضهما الشخصية للبيع وبأسعار معقولة ضمن مؤسسة خيرية وذهب ريعها إلى ضحايا إعصار هايان الذي ضرب الفلبين قبل أسابيع.
ويخصص تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية الـ«بي بي سي» وتلفزيون (آي تي في) بين الحين والآخر يوما كاملا للعمل الخيري يحشدون خلاله كبار مشاهير الفن والرياضة والإعلام لحث المتفرجين على التبرع بما يستطيعون للأطفال في بريطانيا أو أفريقيا أو الهند، ويعلنون في نهاية ذلك اليوم قيمة التبرعات النهائية وامتنانهم للجمهور الذي ساهم في إنجاح البرنامج.
وبينما الحرب على قدم وساق في سوريا تمتلئ قطارات لندن بملصقات لحث الركاب على التبرع لأطفال سوريا ضحايا الحرب الدموية هناك.
لماذا يفكر نجم كرة بالتبرع بملابسه وملابس زوجته للمحتاجين في الفلبين؟ وهو ربما لم يذهب في حياته إلى هناك؟ ولماذا يحضر مشاهير الفن والرياضة برامج التبرعات ويقضون يوما في الاستوديوهات يغنون ويرقصون «مجانا» لجمع أموال لمساعدة الفقراء في أفريقيا وغيرها؟ ولماذا تتكلف نجمة هوليوود أنجلينا جولي عناء الذهاب إلى منطقة الجكوك في بغداد، التي أجزم أن قدم أي مسؤول عراقي لم تطأها، كي تلتقي الأرامل والأيتام، تخفف عنهم تصغي لهم وتمسح دموعهم، وهي مشغولة بحياتها الصاخبة وأفلامها وشريك حياتها براد بيت بل وحتى بهمومها بعد أن قررت استئصال ثدييها لأنها مهددة بالسرطان؟
هذا الغرب الذي نتهمه بالمادية والجشع يضرب لنا أمثلة يومية بإنسانيته وعطائه اللامحدود ورغبته في مساعدة الآخرين أينما كانوا في أنحاء العالم.
كم أتمنى أن أرى هذه المشاهد في أوطاننا، أن نشعر بالتكافل الاجتماعي ويرفع أحدنا العبء عن الآخر وأن نشعر بالمسؤولية إزاء المحتاجين ونمد يد العون لهم لا أن ندير ظهورنا وندعي بأننا غير معنيين بمشاكل الآخرين. وبالمقابل أن نثق أيضا في أن تصل تبرعاتنا إلى الأيادي الصحيحة لا أن يراودنا الشك في أنها ستذهب إلى جهة أخرى أو أن تسرق.
يا ليت.. ولكن كلمة يا ليت «عمرها ما عمرت بيت».