جاءت نتائج الانتخابات الإيطالية مرضية بالنسبة للقوى الشعبوية. ومع هذا، تظل النتائج متوافقة مع نموذج إيطالي تقليدي، الذي سبق أن وصفه المتخصص في العلوم السياسية غيزبي دي بالما في خضم كتاب يحمل عنوان «البقاء دونما حكومة: الأحزاب الإيطالية داخل البرلمان». وربما يجد من انتابتهم حالة من القلق والفزع داخل إيطاليا وأوروبا حيال نتيجة الانتخابات، بعض العزاء في صفحات هذا الكتاب.
يعود تاريخ نشر الكتاب إلى عام 1977 وجاء في أعقاب انتخابات برلمانية بدت شديدة الشبه في نتائجها بتلك المعلن عنها، الأحد الماضي:
فقد فاز الحزب الشيوعي الإيطالي بـ34.4 في المائة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية... ما يزيد قليلاً على ما حصدته «حركة الخمسة نجوم» الشعبوية في انتخابات الأحد.
وفاز الديمقراطيون المسيحيون المنتمون إلى تيار الوسط بـ38.8 في المائة من الأصوات، ما يقترب من نتيجة ائتلاف يمين الوسط عام 2018، وكان قد لحق بهم الضعف، مثلما الحال مع الحزب الديمقراطي بزعامة ماتيو رينزي اليوم، جراء خسارتهم استفتاء عقد قبل الانتخابات (كان الاستفتاء الماضي عن الطلاق، بينما دار الاستفتاء الذي خسره رينزي حول الإصلاح الدستوري).
وتبدو التشابهات بين ذلك الوقت والفترة الراهنة لافتة على نحو شديد. كان مراقبون سياسيون قد أعربوا عن مخاوفهم إزاء إمكانية انهيار الوسط، في الوقت الذي تناول فيه محللون اقتصاديون الأضرار المحتملة التي قد تلحق بالاقتصاد الإيطالي، الذي كان أداؤه آنذاك أيضاً ضعيفاً في أعقاب أزمة اقتصادية عالمية. وكتب دي بالما يقول: «الحكومات الإيطالية الراهنة عاجزة عن التعافي من المشكلات التي تعانيها بقدر ما هي عاجزة عن معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعانيها البلاد». وجاء حديث بالما عن الحكومات بصيغة الجمع، لأن إيطاليا حينها كانت تحت قيادة الحكومة الرابعة والثلاثين بعد الحرب العالمية الثانية.
وطرح دي بالما تفسيراً قوياً عن السبب وراء تقديم الأحزاب الإيطالية أداءً أفضل في محاولاتها البقاء انتخابياً عنه بالنسبة لممارسة الحكم. وكتب يقول: «يمكن قراءة ظهور حكومة محدودة بعد الحرب العالمية الثانية في جزء منه باعتباره رد فعل لأحداث تاريخية... المأساة التي عانتها البلاد تحت وطأة الحكم الفاشي على امتداد الأعوام العشرين الماضية. بصورة ما، فإن ضعف النظام الحاكم في إيطاليا خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية شكل واحداً من أصولها السياسية، ذلك أنه أمد النظام بمرونة أشبه بمرونة الكرة المطاطية؛ ذلك أن الأفراد والصيغ السياسية تتساقط، لكنها ترتد من جديد، مع أقل فعل».
في الواقع، تعتبر هذه صيغة معروفة ومجربة لتعامل البلدان مع صدمة ما بعد الحكم الاستبدادي. ويبدو أن جمهورية التشيك، مع مشهدها السياسي المتبدل باستمرار وائتلافاتها المفتقرة إلى الفاعلية، اختارت نموذجاً مشابهاً بعد الفترة التي قضتها داخل فلك الاتحاد السوفياتي السابق. وجدير بالذكر أن انتخابات جمهورية التشيك أفرزت العام الماضي حالة من الفوضى أشد سوءاً من الفوضى الراهنة داخل إيطاليا. وهناك أيضاً، أبلت الأحزاب الشعبوية بلاءً حسناً. وفي يناير (كانون الثاني)، خسرت حكومة الأقلية التي تمخضت عنها الانتخابات تصويتاً حول الثقة. ولا تزال البلاد تفتقر إلى مجلس وزراء مستقر.
في المقابل، فقد اختارت دول أوروبية أخرى لها تجارب ماضية مع أنظمة حكم استبدادية أو سلطوية - أبرزها ألمانيا وفرنسا - إقرار سلطة مركزية قوية. ويسعى الناخبون في هذه الدول إلى انتخاب حكومة مستقرة قادرة على العمل لفترة كاملة.
داخل هذه الدول، يميل الناخبون بعض الأحيان إلى التصويت على نحو استراتيجي لصالح مرشح لا يدعمونه بصورة كاملة من أجل الوصول إلى هذه النتيجة. ويعتبر انتخاب الفرنسيين إيمانويل ماكرون رئيساً للبلاد العام الماضي واختيار الألمان الحزب الديمقراطي الاجتماعي من أجل تشكيل حكومة ائتلافية مع المحافظين الذين تقودهم المستشارة أنجيلا ميركل، مثالين على هذا السلوك الانتخابي الاستراتيجي.
بيد أنه داخل البلاد التي اعتادت الحكومات المركزية الضعيفة، ليس ثمة حاجة إلى مثل هذه المواءمات؛ فبمقدور الناس التظاهر والتعبير عن غضبهم والإدلاء بأصواتهم لتوضيح آرائهم. ولا يتوقع الأفراد أن تتردى الأوضاع كثيراً إذا ما فعلوا ذلك.
وربما يعود هذا إلى أن الحكومة المركزية ربما لا تملك سيطرة فاعلة بدرجة كبيرة على شؤون الحياة اليومية للمواطنين مقارنة بالمؤسسات الأخرى داخل المجتمع، التي لا تغير كثيراً بالضرورة من نتائج الانتخابات. ومن الممكن أن تتضمن مثل هذه المؤسسات مجتمعات محلية قوية وشبكات اقتصادية غير رسمية وشركات.
وتكشف المقاومة المؤسساتية أمام توجهات الرئيس دونالد ترمب داخل الولايات المتحدة، مع إقدام ولايات ومدن وشركات على اتباع سياسات لا توافق عليها الإدارة الأميركية، قوة مثل هذه المؤسسات والشبكات. وعندما تفشل الحكومة المركزية، تسارع مثل هذه المؤسسات نحو تحمل المسؤولية.
جدير بالذكر هنا أن إيطاليا تتميز بتاريخ طويل من الاعتماد على أي شيء بخلاف السلطة السياسية في ممارسة الحكم. وفي إطار كتابه، شدد دي بالما على أهمية الشركات العامة ووكالات الخدمة العامة، التي تبدو جميعها محصنة ضد التغيرات السياسية وتمثل السلطة الحقيقية، بينما تتبدل الحكومات وتتغير من صورة لأخرى.
بصورة عامة، فإنه في ظل نظام سياسي واهن، فإن المؤسسات التي تتولى وظائف الحكومة من الممكن أن تشكل الداء والدواء معاً، وأن تمارس السلطة دون وجه حق، لكن مع إبقائها على النهج المتعقل المميز لتيار الوسط.
في الحقيقة، لم يكن الإيطاليون ليتواءموا مع حالة عدم الاستقرار السياسي التي تشهدها بلادهم، لو لم يكن هذا اختيارهم الواعي الذي يدفعهم إلى اختيار حكومة مركزية ضعيفة، بدلاً عن أخرى قوية. ومن بين النتائج المهمة المترتبة على ذلك التوجه أن إيطاليا ليس بمقدورها أن تشكل محركاً للتغيير الإيجابي داخل الاتحاد الأوروبي، ذلك أن هذا الدور يستدعي دولاً تتميز بحكومات مستقرة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
7:23 دقيقه
TT
20
الانتخابات الإيطالية: نموذج تقليدي دائماً
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة