د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

درنة الليبية تنتظر الجيش

مدينة درنة الليبية في انتظار العد التنازلي للعودة إلى حضن الوطن، بعد اختطافها من قبل الجماعات الإرهابية سنوات طوالاً، فمنذ أن بدأت مدفعية الجيش الليبي ملاحقة الإرهابيين هناك بقصف أوكارهم، ضمن الاستعدادات العسكرية لتحرير المدينة من بقايا ميليشيات تنظيم القاعدة، حتى انهالت دموع عرابي جماعات الإسلام السياسي بالتباكي على المدنيين والمدينة، التي خذلوا أهلها في أكثر من مرة وتركوهم لسكاكين وفؤوس «داعش» وإخوته.
العملية العسكرية بدأت رغم صعوبة التضاريس الجغرافية للمدينة من الجبال والكهوف والوديان الوعرة، وفي ظل تمترس الجماعات الإرهابية واختبائها خلف المدنيين دروعاً بشرية، صرح رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، بوجود تنسيق عسكري بين قوات الجيش الوطني الليبي والجيش المصري لمنع فرار الإرهابيين عبر الحدود وإحكام الطوق عليهم.
درنة الليبية المختطفة لسنوات هي صاحبة تاريخ طويل من الحضارة والفتوحات، فقد شهدت منذ فجر التاريخ أحداثاً تاريخية كثيرة، منها استشهاد سبعين صحابياً ونيف عام 69 هجرية، عندما أغارت عليهم مراكب رومانية، فاشتبكوا معهم في معركة غير متكافئة العدد والعدة، فاستشهدوا ودفنوا فيما بعد في وسط المدينة، تكريماً لهم، ومنهم الصحابي زهير بن قيس البلوي، والصحابي أبو منصور الفارسي، والصحابي عبد الله بن بر، فدرنة كانت إشعاعاً حضارياً وثقافياً منذ الفتح الإسلامي.
درنة كانت شاهدة على تعايش سلمي للفسيفساء الليبية من القبائل عندما جاء بهم حبيب عبد المولى العبيدي في ملحمة عرفت بملحمة «تجريدة» أو مدد حبيب، حيث ناصر الليبيون بعضهم بعضاً في القضاء على الظلم وردع المعتدي على سكان المدينة، التي تغنى بها الشاعر بالقول:
«سلامات يا درنة حلال مزارك.... راس جدنا مبني عليه جدارك».
درنة منذ سنوات فبراير (شباط) شهدت سيطرة لبعض ميليشيات مرتبطة بتنظيم القاعدة، ولا تخفي ولاءً له وارتباطاً به بل تجاهر بذلك، فسمحت لـ«داعش» بمشاطرتها السيطرة على المدينة، حيث شهدت المدينة وسكانها كثيراً من المشاهد الدموية وأساليب التوحش الداعشي التي منها ذبح الجندي الأسير الشرقاوي في مسجد الصحابة، وقطع رأسه والدفع به إلى الأطفال يلعبون به كعادة سفهاء «داعش»، في ظل مشهد ميليشيات القاعدة ومسمعها التي زعمت الحياد، ولكنها سرعان ما غضبت ليس لمقتل الجندي الشرقاوي وذبحه، ولكن لمقتل زعيمها سالم دربي الذي قتله «داعش درنة»، فهاجمت مقرات «داعش» التي كانت قد تمكنت من المدينة وحولتها إلى ولاية برقة في دولة البغدادي، ومن يومها و«القاعدة» يسيطر على مفاصل المدينة ويمنع أي مظاهر للدولة المدنية، فما الذي دها هؤلاء من أدوات الإسلام السياسي الذين يتباكون على المدينة الآن وهي في قبضة هذا التنظيم الشرس؟
أزمة مدينة درنة الليبية ومعاناة أهلها تسببتا فيهما هذه الميليشيات التي احتضنت الفارين من دول الجوار الليبي، ومنهم مطلوبون مصريون وجزائريون وتونسيون ويمنيون وغيرهم الكثير، فالمدينة منذ أهملها «المؤتمر الوطني» في عام 2012، وأنكر أعضاؤه من جماعة الإسلام السياسي وجود تنظيم القاعدة في المدينة، وهي تئن من وطأة الإرهاب والقمع والفوضى، ورغم انتفاضة أهل درنة أكثر من مرة للتخلص من هذه الميليشيات، فإن خذلان المؤتمر الوطني لهم تسبب في مزيد من معاناة أهل المدينة.
معاناة أهل درنة استخدمها عرابو الإسلام السياسي كعادتهم قميصَ عثمان للمتاجرة السياسية، وليس لرفع المعاناة عن أهلها أو ترك الجيش الليبي يحرر المدينة من هذه الجماعات الإرهابية، التي لم تعد خطراً على ليبيا وحدها، بل تحولت إلى قاعدة ومنطلق ومركز تدريب لعمليات إرهابية تضرب في دول الجوار، ولعل حادثة الواحات المصرية هي إحدى تلك الحلقات، بل إن المدينة أصبحت مأوى للإرهابيين الفارين من دول الجوار ومنها مصر، ولهذا جاء التنسيق بين الجيش الليبي والجيش المصري في العملية التي توشك على البدء في أي لحظة، فلا يمكن ترك المدينة رهينة لميليشيات متطرفة تبايع تنظيمات إرهابية ولا تؤمن بالدولة المدنية، وتتخذ من المدنيين دروعاً بشرية لها.