إميل أمين
كاتب مصري
TT

التاريخ... خطوة إلى الوراء

هل يخطو التاريخ إلى الوراء أم أنه يكرر نفسه؟
مع نهايات الحرب الباردة خيل للناظر أن قضية السباق النووي قد توقفت بها عجلة الزمن، وأن عالماً جديداً من التوافق والاتفاق على تقليص الرؤوس النووية حول العالم قد آن أوانه، غير أن ما تجري به المقادير مؤخراً يشي بعكس ذلك.
لا تتصل القضية بواشنطن فقط هذه المرة، بل ربما تكون رؤية الأميركيين وترمب خاصة للمسألة النووية، رجع صدى لا يتلكأ ولا يملك رفاهية التأخر لما أضافته الترسانة النووية الروسية من أسلحة جهنمية نووية في العقدين الأخيرين.
خلال استعراضه للاستراتيجية الجديدة لبلاده، أشار الرئيس ترمب منذ فترة قريبة إلى طلب موازنة من الكونغرس مقدارها تريليون ونصف التريليون من الدولارات لتجديد الترسانة النووية الأميركية، بما في ذلك استحداث أسلحة نووية تكتيكية أقل حجماً وأكثر فاعلية، عطفاً على صيانة الرؤوس والمنشآت النووية التي تهالكت.
على أن الكارثة الحقيقية التي تبدت مؤخراً لم تعد متصلة فقط بالتحديث التقني، بل بالرؤية الأميركية لاستخدام تلك الأسلحة الفتاكة، في ضوء ما أماط «البنتاغون» اللثام عنه من توسيع السيناريوهات التي يمكن لواشنطن فيها أن تستخدم الأسلحة النووية، وعليه فإن الأمر لم يعد الاستعداد لمواجهة صواريخ الروس، بل قد تكون هناك مخاوف من استخدامها في مواقع أخرى، ويخشى من أن تدخل كآليات وأدوات ضمن دائرة «الحروب الاستباقية»، وهناك من الملفات الساخنة المفتوحة ما يغري صانع القرار الأميركي عند لحظة ما بتفعيل ما لديه من فائض ومخزون القوة.
قبل بضعة أسابيع تحدث زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون عن «الزر» النووي الذي يملكه، وساعتها كان الرد الأميركي الحاسم والسريع للرئيس ترمب عن امتلاكه «زراً أكبر وأخطر»، ما يفيد بأن المواجهة النووية قابلة للحدوث بالفعل.
أحد الأسئلة المفزعة على طاولة النقاش الدولي: «هل سيتم تمديد اتفاق (ستارت - 3) الموقعة بين موسكو وواشنطن عام 2010 أم لا؟
الاتفاق يختص بتخفيض أعداد الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لدى البلدين، غير أنه مع الاستراتيجية النووية الأميركية الجديدة لا يتوقع أحد من أن يقوم الرئيس ترمب بعمل تقليصات إضافية على ترسانته النووية، الأمر الذي يرفع عن الروس أي قيود تمنع تطوير منظومتهم الصاروخية النووية... ماذا يعني ذلك؟
بالقطع سوف يخلق «حالة فراغ نووي» حول العالم، والعهدة هنا على الراوي البروفسور أليكسي أرباتوف رئيس مركز الأمن الدولي في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، فيما الإشكالية الأكبر، هي أنه لن تكون هناك شفافية فيما يتصل بالمشهد النووي العالمي، وعليه سوف يتوقع كل طرف الأسوأ من الطرف الآخر، ذلك أن الخطط الاستراتيجية النووية توضع لمعدلات زمنية ما بين 10 إلى 15 عاماً مستقبلة، وفي ضوء معرفة ما الذي يمتلكه الطرف الآخر، وحالة غياب المعرفة النووية عن القطب الآخر، هذا إن لم نقل الأقطاب الأخرى، في عالم مرشح لحالة من التعددية القطبية تتجاوز الثنائية القطبية التاريخية المعروفة، فإن كلاً من موسكو وواشنطن ستنزعان إلى وضع «هامش احتياطي نووي» في خططهما، الأمر الذي يفيد بدخول البشرية ومن جديد في سباق غير منضبط للتسلح.
هل تسبب الأميركيون بنوع خاص في رجوع التاريخ تلك الخطوة إلى الوراء؟
مؤكد أن الضغوط التي وضعها الناتو على موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولدت مرارات قومية، وأشعلت ثارات استراتيجية، تمثلت جميعها لاحقاً في الثورة النووية، والطفرة الصاروخية التي عملت عليها روسياً – بوتين، خلال العقدين المنصرمين، وقد بات لديها من صواريخ «توبولوف 1م» و«إسكندر»، ما يهدد قواعد الناتو في أوروبا، أما صاروخ «سرامات» فهو كفيل بإبادة ولاية أميركية بحجم تكساس، ناهيك عن حيازة الروس للصاروخ «فويفود» البالغ من الوزن 210 أطنان، ويحمل 10 رؤوس نووية، ويسميه الغرب «الشيطان» وتملك روسيا منه نحو 52 صاروخاً.
الصين بدورها ليست بعيدة عن المشهد الظلامي النووي؛ ففي أوائل فبراير (شباط) الحالي كانت وزارة الدفاع الصينية تعلن عن نجاح ما أطلقت عليه «تجربة لمنظومة اعتراضية مضادة للصواريخ».
على أن التسمية هنا مستترة، وتخفي حقيقة مهمة وخطيرة، وهي أن الصين تكثف الأبحاث في كل أنواع الصواريخ بداية من تلك التي يمكن أن تدمر الأقمار الصناعية في الفضاء، إلى الصواريخ الباليستية المزودة برؤوس نووية، وذلك في إطار مشروع تحديثي طموح يشرف عليه الرئيس الصيني شي جينبينغ نفسه.
لم تعد إذن بكين تتوقف عند حدود «الردع النقدي» ومحاولة إرهاب السوق المالية الأميركية، بل إنها تحلم بمنظومة نووية تضمن لها الحفاظ على إمبراطوريتها المالية والاقتصادية الآتية لا ريب حول العالم.
يحاول الأميركيون جاهدين الحفاظ على صدارة المشهد العالمي نووياً وعسكرياً، غير أن ذلك يدعوهم لارتداء نظارات سوداء يرون من خلالها العالم محفوفاً بالمخاطر والتهديدات النووية، ويتراءى لهم خيال الصين، وكوريا الشمالية، وروسيا في الصحو والنوم، ما يدفعهم إلى الإسراع في طريق عوالم نووية جديدة غير مسبوقة، الأمر الذي يقود العالم إلى نفق مجهولة عواقبه الكارثية، في ظل توترات لا ضامن فيها من انفجار قنبلة نووية عن طريق الخطأ أو السهو، ما يمكن أن يولد ردود فعل تقود البشرية إلى الوراء حقباً وليس خطوات.
الخلاصة: الثقة لا التهديد المتبادل نووياً طريق الإنسانية للنماء وليس الفناء.