طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

نجيب محفوظ وحاجز الزمن!

عندما سألوا أديب العرب الكبير نجيب محفوظ عن الخلود والزمن المقبل أين سيضع إبداعه؟ هل سيظل في البؤرة ويتداول كتاباته الجيل القادم؟ أم أنه سيصبح مجرد رقم أو ذكرى في الأرشيف؟
جاءت إجابته مباشرة: «يهمني الزمن الذي أعيشه، أما الجيل القادم فسوف يفرز مبدعيه، والجمهور سيختار من بينهم، لكل عصر نبض خاص به، ولا أحد يجور على كل العصور».
إجابة لا أظنها ترضي الكثيرين، ليس فقط ممن أحبوا أدب نجيب محفوظ، ولكن لأنها تخاصم المنطق وحقيقة الأدب والفن، لدينا عدد من المبدعين قادرون دائماً على اختراق حاجز الزمن، وبينهم نجيب محفوظ الذي تعاد تقديم رواياته في أفلام، كما أن السينما المكسيكية قدمت له أكثر من عمل روائي.
شكسبير لا يزال هو الأكثر مبيعاً فهو الكاتب الأول عالمياً، وجبران خليل جبران على الساحة العربية كتبه تحقق الرقم الأعلى، لا يعني ذلك أنك مثلاً في توزيع الكتب هذا العام تجدهما يحتلان المرتبة الأولى عالمياً وعربياً، من المؤكد أن تلك المكانة تقف عليها الآن الكاتبة البريطانية جوان رولينج مؤلفة سلسلة «هاري بوتر»، التي باعت أكثر من 400 مليون نسخة بعشرات اللغات وبينها العربية، واعتبرت أيضاً في التاريخ من أكثر المؤلفات مبيعاً، وحققت عشرات من الجوائز، ولدينا على الساحة المصرية أحمد مراد، الذي احتل في السنوات الأخيرة مكانة الأعلى مبيعاً، ورغم ذلك فإن علينا أن نضع خطاً فاصلاً بين التداول اللحظي والإنجاز التراكمي، مبدعون مثل: «تولستوي، وابسن، وفولتير، وبيتهوفن، وموزارت، وغيرهم» يحققون أعلى المبيعات بالمقياس التراكمي.
لمن لا يعرف التركيبة الشخصية لنجيب محفوظ، فإنه يُعتبر كأنه التواضع يسير على قدمين، تفسيري لإجابته أنه لا يفكر في الزمن المقبل، وما الذي سيبقى من أعماله، وأنه يكتب أعماله لجمهور الزمن الذي نعيشه، كل شيء يتغير وبالتالي الإبداع ومفرداته من حقبة إلى أخرى، إلا أن هناك شيئاً أعمق، هو الذي يقاوم عوامل الفناء، ليظل في الوجدان، لأننا في العادة لا شعورياً عندما نتعامل مع عمل فني قديم نعود للزمن نفسه، مثلاً أغلب أفلام القرن العشرين لو أنك تعاطيت معها برؤية زماننا الحالي، ستجد أنه لو كان هناك هاتف جوال أو كومبيوتر لانتفت تماماً الحبكة الدرامية، ولكننا نتجاوز قطعاً عن ذلك ونرى ما هو أبعد، الكوميديان القديم علي الكسار قدم في الثلاثينات فيلم «سلفني 3 جنيه»، هذا المبلغ كان وقتها يحل كل مشكلات البطل، بينما الآن لا تستطيع أن تشتري به ساندويتش فول أو فلافل.
الفنان ابن عصره يأخذ مفرداته وإيقاعه، ولا يستعير أصابع أحد في الكتابة أو العزف.
المشكلة أن الزمن المقبل صار عند البعض هو الشماعة، عندما يفشل في العادة عمل فني يلوحون أحياناً بأن الأيام ستنصفه، من الممكن طبعاً بنسبة ضئيلة أن تجد شيئاً من الحقيقة في تلك المقولات، ولكنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
مثلاً سيد درويش حتى رحيله عام 1923 لم يكن يتوقع أحد أن يشغل تلك المكانة في الموسيقي، ولكن الزمن أثبت أن الموسيقى الشرقية لا تزال تعيش على ضفاف إبداعه.
نجيب محفوظ مثل غيره من كبار المبدعين، سيمحو الزمن جزءاً مما قدمه، وأيضاً سيمنح الزمن قسطاً أكبر من إبداعه الحياة، لأنه قطعاً قدم ما يستحق الحياة!!