علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

إقرار مؤلف «نجديون وراء الحدود» بأن الكتاب ليس له

عُرِض عليّ في أحد أيام شهر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1992، قضية صحافية، فحواها سرقة علمية، المدعي فيها رجل أعمال سعودي اسمه يعقوب الرشيد، والمدّعى عليه أكاديمي سوداني اسمه عبد العزيز عبد الغني إبراهيم. عرضها عليَّ لأني كنتُ في ذلك الوقت في عملي محرراً ثقافياً بمكتب جريدة «الشرق الأوسط» في الرياض، أُعنى بمتابعة موضوع السرقات العلمية. رحَّبتُ بهذا العرض، وطلبت منه رقم هاتف يعقوب الرشيد. اتصلت بيعقوب ليحدد لي موعد اللقاء به ومكانه. فحدد لي موعد اللقاء ومكانه. وكان الموعد صباحاً، والمكان الذي اختاره مكتبي.
كنتُ في منتصف الثمانينات الميلادية في أثناء دراستي بكلية الإعلام والدعوة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قد سمعت باسمه من الصديق والزميل في الدراسة في تلك الكلية قصي البدران، الذي كان وقتها يعمل مدير تحرير مجلة «التعاون الخليجي» التي أغلقها مالكها في مطلع سنة 1988، حيث إنه كثيراً ما كان يحدثني عنه وعن آرائه وعن أفكاره وعن أحكامه على اتجاهات سياسية وآيديولوجية عاصرها وعلى شخصيات عامة دنا منها واقترب، وأخرى عرفها عن بعد. فقصي كان قريباً منه ويلتقيه كثيراً، ومما عزز صلته به أنه يمتّ إليه بصلة قرابة، فالراحل هو أخو جدته من الرضاعة. عرفتُ من قصي أنه درس الفيزياء والرياضيات في الجامعة الأميركية ببيروت في الأربعينات الميلادية، وأنه يجيد اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية، وأنه بعد مباشرته العمل الحكومي في السعودية بمدينة الرياض كان كثير التردد على بيروت في سنوات الخمسينات والستينات وفي سنوات ما قبل الحرب الأهلية في لبنان. وكان يقص عليه بعض ما خبره وما عايشه هناك من خبايا في دهاليز الصحافة وسراديب السياسة.
كان قصي يحدثني عن هذه الأشياء، ودافعه إلى ذلك الحب والإعجاب والتثمين له، وقد لمستُ في أرائه وأفكاره وأحكامه أنه رجل ذو فكر يميني حاد ومغال.
في تلك السنوات لم أكن قد حظيت بلقياه، ولا أعرف شيئاً عن شكله ورسمه، ولم يقع بصري على صورة فوتوغرافية منشورة له بإحدى الصحف والمجلات السعودية.
حين زارني أول مرة في مكتبي استرعى انتباهي أنه رجل وضي الطلعة، أبيض مشرب بحمرة، وسيم قسيم، نَيِّق في ملبسه وفي أسلوب كلامه. وهذه الصفات وقف عندها معظم راثيه.
ما أعرفه عن يعقوب الرشيد قبل أن ألتقيه لم يتعدَّ ما ورد على سمعي من أحاديث الصديق وزميل الدراسة قصي المفعمة بالود والحب لشخصه الكريم، والإعجاب بثقافته وثراء تجربته وسعة صلاته بشخصيات مهمة ومؤثرة، سعودية وعربية وأجنبية.
وما أعرفه عن عبد العزيز عبد الغني إبراهيم في ذلك الوقت، هو أنه أكاديمي سوداني عمل في عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأنه أشرف على بعض أطاريح الماجستير والدكتوراه في كلية العلوم الاجتماعية في تلك الجامعة، وأنه معني بتاريخ الجزيرة والخليج العربي في العصر الحديث. وكنتُ قد قرأتُ من أعماله عملين صادرين عن دار «الساقي» بلندن هما: «أمراء وغزاة: قصة الحدود والسيادة الإقليمية في الخليج العربي... دراسة وثائقية»، و«صراع الأمراء: علاقة نجد بالقوى السياسية في الخليج العربي... 1800 - 1870». ومن محاسن الصدف أني كنتُ قد قرأتُ كتابه المتنازَع عليه: «نجديون وراء الحدود - العقيلات ودورهم في علاقة نجد العسكرية والاقتصادية في العراق والشام ومصر... 1750م - 1950م» الصادر عن دار «الساقي» سنة 1991. وفي الطبعة الثانية الصادرة عن الدار نفسها سنة 2014م اختصر العنوان إلى «نجديون وراء الحدود - العقيلات».
وكانت دار «الساقي» قد أوقفت بيع الكتاب وسحبت النسخ الموجودة منه في السوق حتى بيان حقيقة الدعوى التي رفعها يعقوب الرشيد على الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم.
لم أكن قبل زيارة يعقوب الرشيد الأولى لي في مكتبي قد اتخذتُ موقفاً ما من هذه القضية، رغم معرفتي أن يعقوب ليست له أبحاث، ولا أنه كان معروفاً بوصفه كاتباً حتى في عقود زمنية بعيدة، كالخمسينات والستينات والسبعينات الميلادية، ورغم معرفتي أن الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم - بصرف النظر عن كونه أكاديمياً وأستاذ جامعياً - باحث قدير ومتمرِّس في البحث العلمي.
كان قد أخبرني يعقوب حين اتصلتُ هاتفيّاً به ليحدد موعد اللقاء ومكانه، أن لديه أدلةً ووثائقَ دامغةً تُثبِت أن الكتاب من تأليفه وليس من تأليف عبد العزيز عبد الغني إبراهيم.
سألتُه في أول لقاء بيننا عن نوع صِلة الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم بالكتاب وبه. فأجاب: إنه كان مجرد باحث أجير يعاونه في إتمام الكتاب. اتفق وإياه على أن يأخذ مبلغاً معيناً نظير أتعابه في جَمْع مادة الكتاب التي يعرف هو - يعقوب الرشيد - مظانّها الشفهية والكتابية، وإنه كان محتاجاً لمثل هذه المساعدة لارتباطاته المتعددة والبعيدة عن مجال التأليف، التي تحول بينه وبين التفرُّغ الكامل لإنجاز مثل هذا العمل، لكن من دون أن يكون للدكتور عبد العزيز أي حقوق أدبية أو مالية في الكتاب. وقال إنه فوجِئ بإقدامه على نشره باسمه واحتفاظه بحق التأليف. لذا سارع بالاتصال بدار «الساقي»، وأبدى لها استعداده الكامل لتحمل الخسائر المالية التي تترتب على إيقاف الكتاب بدلاً منها.
وأخبرني أنه سافر إلى لندن وحاول أن يُقِيم الدعوى هناك في إجراءات شبه رسمية استغرقت منه نحو الشهرين، لكنه نُصِح بأن يقيم الدعوى بمحل إقامة الشخص المدعى عليه كي تكون الإجراءات ذات فاعلية. فأناب مَن يتابع عنه الدعوى في الخرطوم. وقال: «إنني وجدتُ تجاوباً من الجهات العلمية هناك. أما الجهات الرسمية فلمسنا فيها تردداً أثنانا عن رفع الدعوى». وعزا هذا إلى عوامل سياسية. ويقصد بالعوامل السياسية هنا برود العلاقات السياسية ما بين السعودية ودول الخليج كافة من جهة، وحكومة السودان من جهة أخرى، في زمن إفادته تلك، بسبب موقفها المؤيِّد لغزو نظام صدام حسين الكويت واحتلالها. وأعلمني أن القضية مُقامة في وزارة الإعلام السعودية، لأن الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم كان يعمل بالرياض.
لم يكتفِ يعقوب بتلك الشكاوى التي قدمها، فلقد أرسل تعميماً إلى المكتبات الوطنية ودور بيع الكتب في تلك السنة، أعطاني نسخةً منه، ومما جاء في هذا التعميم قوله: «... وتوضيحاً للواقع والحقيقة، فإن المادة العلمية والوثائقية في هذا الكتاب كلها سَرِقة أقدم عليها المؤلف المزعوم ونسبها إلى نفسه. فلقد عمل المذكور لفترة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وخلال فترة، عن العقيلات باعتباره (من الجدّين) واحداً من أبنائهم، وقد عايشهم لعقود من السنين في مختلف مراكز وجودهم في داخل الجزيرة العربية وخارجها. وعبر اللقاءات كان يطلع الدكتور عبد العزيز على كل ما يُنجِزه في الموضوع. ويشهد على ذلك مواطنون ومقيمون معتبرون ومنهم شخصيات علمية معروفة في المملكة.
وبحكم وجود كثير من وثائق العقيلات خارج المملكة، ومعرفتي لأسماء وعناوين بعض المسنين الساكنين في منطقة الهلال الخصيب ووادي النيل، ومنهم أقارب ومعارف فقد قبل الدكتور عبد العزيز أن يقوم بمهمة جمع المعلومات وإحضار نسخ عن الوثائق إلى المؤلف الحقيقي المذكور أدناه، مقابل دفع النفقات بمبالغ نقدية وعن طريق البنوك. ومكافأة إضافية قدرها عشرون ألف ريال. وتم استئجاره، وتمت المهمة، وجرى صرف المبلغ. وتعزز ذلك بتوقيع إقرار شامل بالقبض مع تعهده بتقديم أية وثائق مستقبلاً... ويبدو أن الدكتور عبد العزيز هذا كان يبيِّت الخيانة والغدر، فقد قام بتوظيف كل المعلومات التي حصل عليها من المؤلف الحقيقي المذكور، بنشر كتاب عن الموضوع ذاته، الذي لم يكن يعرف شيئاً عنه ولا يهتم به. وذلك عندما غادر المملكة نهائياً، ظناً أنه قد أفلت من فعالية الأنظمة والقوانين في المملكة».
كذلك أعطاني صورة من الإقرار الذي كتبه الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم بخط يده، وهو أقوى وثيقة لديه، ونصه كما يلي: «أُقِر أنا الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم، أنه قد تم بموجب الشيك رقم 243، والمؤرخ في 18/ 6/ 1989، الصادر على البنك العربي بالرياض بمبلغ عشرين ألف ريال قد (استلمت) جميع أتعابي عن كتاب (العقيلات عبر القرون) لمؤلفه يعقوب بن يوسف الرشيد، وسوف أقدم كل ما يستجد من معلومات أخرى في هذا الشأن ما أمكن ذلك في الطبعات التالية. وهذا إقرار مني بذلك. والله خير الشاهدين».
هذا الإقرار مؤرَّخ في 17/ 6/ 1989. وكتب صاحب هذا الإقرار تحت هذا التاريخ اسمه، وقام بوضع توقيعه تحت اسمه على هذا الإقرار.