حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«سوتشي» لتكريس المتغيرات السورية

انطلقت حرب التسوية في سوريا، والسباق على ثلاثة مسارات تبدو متوازية، أقله في الشكل، حيث يؤكد الجميع مرجعية القرار الدولي 2254، وهي خط «جنيف» المستند إلى الشرعية الدولية، وخط «آستانة» تحت ضمان تحالف الدول الراعية، روسيا وتركيا وإيران بمشاركة أممية ودولية، وخط «سوتشي» الذي سينطلق في نهاية يناير (كانون الثاني) 2018، وقد حاز «الرعاية الدولية» وفق السيد بوغدانوف الذي قال: «كل شيء يتم برعاية الأمم المتحدة»، كاشفاً عن أن موسكو تجري اتصالات مكثفة مع «الشركاء الغربيين بما في ذلك الولايات المتحدة، لدعوتهم إلى (سوتشي) إن عبّروا عن رغبة في المشاركة»، والاستعداد لدعوة أي دولة تبدي اهتماماً كي تحضر بصفة مراقب.
رغم دعوة السيد دي ميستورا إلى «جنيف 9» في 21 يناير القادم، فإن الأنظار شاخصة على «سوتشي» في 29 منه، التي ستجمع نحو 1500 مشارك؛ من هم وكيف سيتم اختيارهم وما المعايير التمثيلية التي ستعتمد، ومن يحدد هذه المعايير حتى يقال إنهم يمثلون أغلب الطيف السوري، كلها أمور مجهولة، (هذا بغياب الممثلين الحقيقيين عن الأقلية الكردية التي تسيطر على أكثر من 25 في المائة من سوريا والممثلة بـ«وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية»)، سيلتقون في محادثات غير مسبوقة، يمكن أن يُقال عنها كل شيء إلاّ صفة الجدية، فضلاً عن أنه لا معطيات بعدُ حول آليات الانعقاد والنقاش المنتج.
الآن ماذا تريد روسيا من هذا المؤتمر؟ ولماذا تحول انعقاده إلى بندٍ دائم على كل جداول أعمال القمم التي عقدها الرئيس الروسي في الأشهر الماضية؟ طبعاً يصعب على أي جهة أن تُقدم قراءة صحيحة لخطط الرئيس الروسي، وغياب المعطيات التفصيلية يزيد الأسئلة على حساب نُدرة الأجوبة، لكن المؤكد أن موسكو تسعى إلى تسوية على قياس مصالحها قبل أي شيء آخر، وتدرك أنه من دون التسوية السياسية سيتبخر كل ما أنجزته في سوريا، وتعرف موسكو أنه رغم الموافقات التركية والإيرانية على انعقاد هذا المؤتمر، فهي لم تنجح كلية بعد في تثبيت وقف النار كما لم تتمكن من فرض قناعاتها كاملة على طهران وأنقرة.
إن تحقيق روسيا مصالحها شرطه وقف كل أشكال القتال والتقدم نحو التسوية التي رسمتها، أولويتها ترسيخ نفوذها في سوريا وكل المنطقة، والإقرار العالمي، أي الأميركي، بدور مميز لها في معالجة القضايا الدولية من أوكرانيا إلى كوريا الشمالية، وهو دور كانت قد فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. من ثم التقدم أكثر فأكثر في إمساك ملف إعادة إعمار سوريا، بعدما أكدت زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي سوريا قبل أيام، أن ثمن الانتصار، الذي تطلب وفق وزير الدفاع الجنرال سيرغي شويغو، استخدام 48 ألفاً من العسكريين الروس، هو أولوية السيطرة الروسية على النفط والغاز وخطوط النقل، المرشحة لأن تُدرَّ الأرباح على الكرملين.
ما تريده موسكو، يتعارض مع أولويات طهران ورأس النظام السوري، والافتراق بين الجانبين حتمي لكنه مؤجل إلى حين تبلور إرادة أميركية للتوافق مع روسيا، وما جرى في «جنيف 8» من جانب الوفد السوري إلى المفاوضات، حمل بداية تمرد نظام الأسد على الراعي الروسي، من خلال العودة إلى أولوية متابعة المعركة ضد الإرهاب، وشهد العالم الفيديو المسرب من الوفد السوري عن المناطق التي تقول دمشق إنها ما زالت خاضعة للإرهابيين، وهذا جوهر ما تريده طهران التي دعت سابقاً لمتابعة الحرب لاستعادة الرقة وإدلب وإنهاء الغوطة الشرقية والوضع في الأرياف وإحكام السيطرة على مناطق «خفض التصعيد». هذا يفسر المناورات التي تلجأ لها طهران والنظام السوري كلما وُجهت الدعوة إلى جولة جديدة من المحادثات. ولأن كل الأطراف «دفنوا معاً الشيخ زنكي»، يدرك الجميع أن وضع المحادثات على سكة التسوية، يعني أنه لن يكون متاحاً أن تستمر هذه السيطرة للنظام الإيراني، ولن يكون مسموحاً بقاء هذه الميليشيات المتطرفة التي تقاتل الشعب السوري، وأكثر من ذلك فإن التسوية اليوم تكسر مشروع طهران الإجرامي للسيطرة، الذي يمر حتماً عبر المزيد من الحروب والتغيير الديموغرافي، وأساساً منع النازحين من العودة لتثبيت توازن مذهبي يحمي مشروع السيطرة الدائم، والكل يذكر امتداح بشار الأسد التغيرات الديموغرافية بعد عمليات التهجير والاقتلاع الواسعة جداً في محيط دمشق.
مقابل ما تريده طهران، لا تزال أولويات أنقرة منصبة على السيطرة على عفرين والدخول إلى منبج واحتكار السيطرة على إدلب فتكون الحصة التركية من الكعكة السورية وازنة، وتنهي بذلك كل إمكانية لوصل المناطق ذات الأغلبية الكردية مباشرة، أو عبر «كوريدور» جرت الإشارة إليه أكثر من مرة. وحتى إردوغان الذي عقد سبع قِمم مع الرئيس الروسي يخشى بدوره من سرعة التسوية على ما يعتبره مصالح تركية في الشمال السوري، وهذا ما يفسر مواقف بعض المعارضة السورية السياسية والعسكرية المعترضة حيناً على مؤتمر «سوتشي» والرافضة له حيناً آخر، وما من جهة مستعدة للتخلي عن أي جزء من أوراقها.
طبعاً الأشد وجعاً في كلِّ هذه اللوحة هو أن سوريا التي باتت أشبه بحقول للقتل، يتم التعامل معها بوصفها ملفاً في أجندات الكبار، ويتم التعامل مع السوريين بـ«تمنين» كبير كثمن لوقف المقتلة العامة، والصورة أن الكل سلّم القرار للخارج وخصوصاً الروسي والأميركي؛ فكلاهما من يملك في نهاية المطاف وضع التسوية السياسية على سكة الحل النهائي أو العودة للتفجير... لكن طالما كل المؤشرات تلتقي على أن «سوتشي» سيكون رقم واحد ولن يُحقق الآن الاختراق النوعي، فلماذا الإصرار الروسي عليه؟
لنعد إلى «آستانة»، فحلقات هذا المؤتمر التي نجحت في إنجاز مناطق «خفض التصعيد»، نجحت من الزاوية الروسية بتقديم بدائل تمثيلية في وجوه المعارضة السياسية والفصائل وفي الأداء، وعلى «سوتشي» أن يُكرس كثيرا من المتغيرات بداية بمن يمثل السوريين، ومشهد المعارضة السياسية والعسكرية الدقيق جداً، إلى الدستور وشكل الحكم والانتخابات، كنتيجة للانتصار الروسي، بما فيها دور الأسد ولو بنصف أنياب، بانتظار بلورة البديل وشرطه التوافق مع الأميركيين وأخذ رضا الدول العربية الفاعلة، وهذا سيضع طهران بين الطلاق مع الروس أو القبول الطوعي بكبح نفوذها، فيكون «جنيف» لتثبيت المتغيرات التي تريد موسكو تكريسها في «سوتشي».