عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

استقالة وزير

استقالة وزير أمر مألوف، وإن كان غير واسع الانتشار والتكرار في الديمقراطيات البرلمانية.
استقالة، أو إقالة، وزير أو مسؤول في أقدم النظم البرلمانية وأعرقها كبريطانيا تكون لأسباب قانونية، أيْ لمخالفته القانون الجنائي بارتكاب أعمال يعاقب عليها القانون مثل خرقه لائحة الممارسات الوزارية، أو تضليله البرلمان (وهو جرم ديمقراطي لا يغتفر)؛ وغالباً تلعب الصحافة التحقيقية دورها في كشف أمور دعت الوزير إلى الاستقالة.
حكاية من بريطانيا عن حكم القانون والفصل بين السلطات والمحاسبة وتوازن السلطات بما فيها السلطة الرابعة، نقدمها لقراء «الشرق الأوسط» باعتبارهم الصفوة الساعية دائماً نحو الإصلاح الديمقراطي والتطوير.
هذا الأسبوع اضطرت رئيسة الوزراء تريزا ماي إلى إقالة أحد أصدقائها المقربين، أهم حلفائها في الحكومة، نائب رئيس مجلس الوزراء داميان غرين، بسبب خرقه لائحة الأسلوب والممارسات الوزارية. اللائحة تطورت عبر السنين والحكومات المتعددة، آخرها تعديلها الأخير في العام الماضي (2016).
اللائحة تتضمن إرشادات، أهمها: الصدق التام، والأمانة، واحترام المركز الوظيفي والقانون، والتفاني في خدمة الشعب، وعدم الإتيان بتصرفات وأفعال تحرج الحكومة أو تقلل من قدرتها على العمل.
لائحة طويلة ومعقدة، لكن أهم نقطة فيها أطاحت بمستقبل الوزير غرين، كانت فيما يتعلق بقول الصدق، وإن كان بعض العناوين المضللة، في صحف يسارية تريد النَّيل من حكومة المحافظين بزعامة السيدة ماي، تجعل الكثيرين، خصوصاً غير البريطانيين، يُعزون أسباب الإقالة إلى أمور أخرى.
الأزمة لها ثلاثة إبعاد؛ أهمها طبعاً الوزير نفسه وتصرفاته، أي الانطباع الذي يتركه وزير في الرأي العام. وعاملان آخران أحدهما زمني، والآخر يتعلق بأطراف أخرى غير الوزير غرين.
ملخص الحكاية أن الوزير قفز اسمه إلى دائرة الأخبار السلبية في الأسابيع الأخيرة في أثناء هوجة بدأتها بعض النسوة بتوجيه اتهامات تتراوح ما بين الغزل بالتعليقات غير اللائقة والتحرش الجنسي باللفظ واللمس، وما سماه بعضهن استغلال القوة والنفوذ للضغط على فتيات لبدء علاقات عاطفية.
بعض المسؤولين والساسة وُجهت إليهم الاتهامات، والبعض استقال، ومنهم وزير الدفاع السابق مايكل فاللون، الذي استقال إثر اتهامات بأنه غازل بعض النساء. بالطبع أخطأ بعض الرجال - وليس كلهم - التصرف. وكثير من النسويات (ناشطات الحركة النسوية التي لا تكتفي بالمساواة بل تنتمي إلى آيديولوجيا تفوُّق النساء) حوّلتها إلى قضية سياسية بدعوى أنها استغلال للنفوذ والسلطة في مجتمع ذكوري.
الوزير غرين اتهمته صحافية شابة بأنه غازلها واقترح أن يقيم علاقة معها عندما تقدمت بطلب للعمل في مكتبه قبل أعوام. لجنة مجلس الوزراء بدأت التحقيق في الادعاءات، وتعقد الأمر بتدخل طرف آخر وهو ضابط بوليس متقاعد كان قد تولى التحقيق في قضية تسريب ملفات إلى الصحافة قبل 13 عاماً. التحقيق كانت حكومة توني بلير العمالية قد أمرت به. وكان المحافظون، وبينهم غرين، وقتها في المعارضة. البوليس قام بتفتيش مكاتب نواب مشتبه في تسريبهم المعلومات ومنهم غرين. ونسي الجميع الأمر بمرور السنوات خصوصاً مع عدم ثبوت أيٍّ من التهم وقتها.
الضابط المتقاعد، فجأة قال للصحافة الشهر الماضي إنه في أثناء تفتيش مكتب غرين في برلمان وستمنستر وجد صوراً إباحية ومشاهد جنسية خليعة من الإنترنت. وهي ليست مخالفة قانونية، فهذه الصور متاحة وفي متناول الجميع، لكنه أمر غير مستساغ اجتماعياً.
الصحافة اليسارية الاتجاه ركزت على الجانب الأخلاقي للنَّيل من حكومة المحافظين، بينما حذرت قلة تعد على أصابع اليد الواحدة من تجاوزات البوليس. فالصور الخليعة ليست مخالفة قانونية، ولا علاقة لها بما كان يحقق فيه البوليس وقتها من نقل الملفات السياسية خارج البرلمان. كما أن مجتمع النظام الديمقراطي البرلماني يعيش تحت حكم قانون وقضاء عادل مستقل. هذا المجتمع لا يخلط بين ما هو أخلاقي أو مستساغ اجتماعياً وبين ما هو قانوني. فمثلاً الإسراف في الشراب إلى حد الثمالة مدانٌ أخلاقياً ويرفضه المجتمع ويضر بالصحة، لكنه ليس خرقاً للقانون، والبوليس يتدخل فقط إذا قاد أحدهم سيارة تحت تأثير الشراب.
فقانون التحقيق في النشاط الإجرامي لعام 1996، يحدد واجبات ودور وصلاحيات البوليس، في مجرد التحقيق بحياد، والبحث عن الأدلة والاستجواب دون استصدار أحكام مسبقة، أو التعاطف مع أي طرف تحت تأثير غريزة نصرة المظلوم، فهذا من شأن القضاء وليس من اختصاصات البوليس.
رجل البوليس المتقاعد احتفظ بعد تركه الخدمة بمعلومات حصل عليها من أرشيف خدمة عامة ممولة من الضرائب، في انتهاكٍ لقانون التحقيق الجنائي لعام 1996، كما أنه انتهك قانون حماية المعلومات الشخصية بتسريب معلومات عما وجد على كومبيوتر شخصي.
ضابط البوليس برر تصرفه بأنه من أجل الصالح العام، وهناك سوابق برر فيها القضاء خرق القانون من أجل الصالح العام، كانتهاك موظف لائحة العمل لسرقة ملفات تكشف الفساد. لكن يصعب قبول التفسير في حالة غرين، فماذا يستفيد الشعب من معرفة ما كان موجوداً على كومبيوتر نائب برلماني 10 أعوام قبل توليه منصباً وزارياً؟
وبالفعل تصر الحكومة على قيام جهة مستقلة بإجراء تحقيق في تجاوزات البوليس.
غرين أوقع نفسه في خطأ أطاح بسياسيين قبله. فبدلاً من التزام الصمت والتحجج بانتظار تحقيق لجنة مجلس الوزراء، أصدر تصريحات بأنه لا علم لديه بعثور البوليس على هذه الصور في جهاز الكومبيوتر قبل 13 عاماً. واتضح في الأسبوع الماضي أن البوليس قدم لمحامي المستر غرين وقتها كشفاً كاملاً بكل محتويات الكومبيوتر بما فيها الصور الإباحية، ولا شك طبعاً أن المحامي أخبر موكله.
أي أن غرين قدم معلومات كاذبة منذ أسبوعين فقط وهو في منصب وزاري، وهي مخالفة للائحة السلوك الوزاري، مما اضطر رئيسة الحكومة إلى إقالته.
فخطأ الوزير تضليل الرأي العام والكذب، وليس الإطلاع على صور إباحية (لو كان هو الذي أنزلها من الإنترنت وليس أحد العاملين في مكتبه). لكن عناوين صحف كـ«الغارديان» و«الصن» ومقدمة نشرة الأخبار في الـ«بي بي سي» أعطت القارئ الانطباع الخاطئ بإقحام عبارات عن الجنس والصور الإباحية، بينما جريمة الوزير الكذب وليست الصور الفاضحة.
والدرس هنا، أن محاولة رجل السياسة التغطية على ما يراه المجتمع أو تثيره الصحافة على أنه مستهجن أخلاقياً، تجعله يرتكب خطأً قانونياً كخرق لائحة السلوك الوزاري. الجانب الآخر من الدرس، أن سوء فهم بعض الصحافيين وعدم تحديدهم الفارق بين القانون وقبول الرأي العام، يدفعهم، غالباً، من دون قصد إلى تضليل القراء والمشاهدين والمستمعين.
وربما الدرس الأخير، أن أقدم الديمقراطيات وأعرقها لا ترى عيباً أو أمراً سلبياً في انتقاد نفسها والكشف عن الأخطاء باستمرار لمحاولة إصلاحها.