سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

ثمن الكتاب ورحلة القمر

يقدم نيال كيشتيني لكتابه «تاريخ موجز للاقتصاد» بالقول، إذا كنت تقرأ هذا الكتاب فهذا يعني أنك إنسان محظوظ، تملك المال لشرائه. أما لو أنك من بلد فقير لكانت عائلتك تكافح من أجل الحصول على بضعة دولارات في اليوم. وسوف يذهب معظم ما تحصِّل على الطعام، ولن يبقى لديك ما يكفي لشراء كتاب. ففي بوركينا فاسو نصف اليافعين أميّون، وثلث البنات يجدن القراءة. وبدل أن تتعلم فتاة في الثانية عشرة اللغات، أو الحساب، فإنها تمضي معظم يومها في نقل المياه إلى البيت في سطل تحمله على رأسها إلى كوخ أهلها. إنك لا تفكر في نفسك كرجل ميسور أو غني، لكن بالنسبة إلى كثيرين في العالم، فإن شراء كتاب هو تماماً مثل رحلة إلى القمر.
يشرح كيشتيني أن علم الاقتصاد هو علم استخدام الجماعات مصادرها أو ثرواتها: الأرض والفحم الحجري والطاقة البشرية التي تجمع في إنتاج سلع ضرورية كالخبز والألبسة والأحذية. وعلم الاقتصاد هو الذي يثبت أن من غير الصحيح القول إن أهل بوركينا فاسو فقراء لأنهم خاملون؛ لأن بعضهم يعمل في اجتهاد وتعب هائلين، إلا أنهم ولدوا في اقتصاد لا يجيد إدارة الإنتاج. الاقتصاد، أو الاقتصاديات، أو علم الاقتصاد، هو الذي يشرح لنا، ولو في صعوبة، يولد الطفل في بريطانيا ومن حوله المصانع والبنوك، ويولد في بوركينا فاسو ومن حوله الفقر والطرق الترابية. إنه بالتالي، علم الحياة أو الموت: في البلاد الصناعية لم يعد هناك شيء يسمى وفيات الأطفال، بينما في البلاد الفقيرة يموت 10 في المائة من المواليد قبل بلوغ سن الخامسة.
الاقتصاديات، قال العالم البريطاني ليونيل روبنز، هي علم دراسة القلة، أو الندرة. كيف تحول قلة المياه إلى ريّ، وكيف تحول الأرض الجرداء إلى خصب، وكيف تحول الاستحالات والصعوبات إلى فرص وإمكانات لجميع الناس. العدو الأكبر للعلم والأمم هو الجهل والفساد. كلاهما لا حدود له. الفقر ينسي البشر كل شيء، والفساد يقتل الأمل في النفوس ويحول الجائعين والفقراء إلى كائنات ملهية بالثرثرة والخرافات.
ربما يحمل الصينيون معهم إلى أفريقيا، ليس الألبسة الرخيصة فاقعة الألوان، بل رغبة الإنتاج. بدأت العبودية في أفريقيا قبل قيام أميركا واكتشافها. كانت مناطق كثيرة، بينها مناطقنا، مزدهرة بهذا العار. ولا يزال الإنسان عبداً للإنسان، بأشكال كثيرة. في قلب إيطاليا يمارس الرجل الأبيض أقسى أشكال العبودية على اللاجئين «الاقتصاديين» من أوروبا الشرقية. أول الحريات، أو أول الطريق إليها، هو الاقتصاد. الجائع لا تعنيه المعرفة كثيراً.