إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

التحدي الهندي مع راهول غاندي

في عالمنا العربي ما يكفي من المحن والمشكلات المستعصية لدرجة تبدو معها مناقشة أي قضية دولية أخرى كما لو كانت محاولة للهروب من مواجهتها.
غير أن ما يحصل وقد يحصل للهند في الآتي من الأيام يشكل جزءاً من التحديات التي تواجه وستواجه العالمين العربي والإسلامي. أما مناسبة كتابة هذه السطور فهي تولَّي راهول غاندي سليل أسرة غاندي - نهرو، التي صارت عنواناً لهند مستقلة ديمقراطية علمانية وغير منحازة، قيادة حزب المؤتمر الهندي... الذي قاد النضال الاستقلالي في أكبر ديمقراطيات العالم.
مهمٌّ جداً التوقف عند أهمية الحدث أمام خلفية تصاعد التشدّد الديني ليس في باكستان، الدولة التي أُسست بدايةً تحت رايات دينية لتكون «دولة مسلمة»... بل في الهند أيضاً، حيث تراجع حضور حزب المؤتمر التاريخي المنفتح أمام شعبوية التشدّد القومي والديني لحزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي بقيادة رئيس الوزراء الحالي ناريندا مودي. والمفارقة، أن مودي الذي بنى جزءاً من شعبيته على سياساته الشعبوية الطائفية هو زعيم ولاية غُجَرات، الولاية التي وُلد فيها المهاتما غاندي، والتي تعد الأقرب إلى العالمين العربي والإسلامي.
لقد كان استقلال الهند عام 1947 أول اختبار معاصر لمدى قدرة «الإسلام السياسي» على التعايش مع المؤسسات السياسية الحديثة في دول العالم الثالث مع بدء العد العكسي للاستعمار الكلاسيكي. كان أيضاً أول اختبار له على صعيد التعايش مع الديانات الأخرى في كيانات مستقلة لا يشكّل فيها المسلمون غالبية سكانية.
في شبه القارة الهندية، قبل سنة واحدة من «نكبة فلسطين» وتأسيس دولة إسرائيل كان الخيار التاريخي. الخيار بين مفهومي الدولة التعدّدية و«الدولة الدينية». بين التفاؤل بإمكانية التوصل إلى تعايش عابر لحواجز العرق والدين واللغة... والشك الذي يعتبره كثيرون واقعية. وهذا كان الحال في الهند، حيث رأى كثيرون من المسلمين الشك واقعية مبرّرة في شبه قارة يشكل المسلمون أقلية فيها وتتكلم عشرات اللغات ومئات اللهجات وتضمّ - في حينه - مئات الملايين.
انقسم المسلمون يومذاك، وتشقّقت الحركة الوطنية الهندية التي قادت النضال من أجل الاستقلال عن التاج البريطاني، الذي كانت الهند «درّته» الأعظم.
وكان القرار الصعب الذي ترك تفاعلات وتردّدات ما زالت معنا حتى اليوم، وخلّف علامات استفهام تبقى معنا، وربما تكبر مستقبلاً؛ إذ أصرّ تيار الزعيم محمد علي جنّه (جناح) زعيم «الرابطة الإسلامية لعموم الهند»، على استقلال المسلمين في كيان خاص بهم بعيداً عمّا اعتبره أحلاماً في أذهان مثقفين مثاليين مثل «المهاتما» موهانداس غاندي وجواهرلال نهرو... وبعض القادة المسلمين الهنود الآخرين مثل أبو الكلام أزاد وذاكر حسين.
وحصل ما حصل عام 1947 واستقلت الهند، وكذلك باكستان... الكيان المسلم المنسلخ عن الوطن الأم.
كانت باكستان الوليدة يومذاك «باكستانين»: باكستان غربيّة يشكل البنجابيون أكبر مكوّناتها، يليهم السنديون والباثان (الأفغان) والبلوش والمهاجرون المسلمون من باقي أجزاء الهند، وباكستان شرقية حيث الغالبية العظمى للبنغاليين.
الانسلاخ أو الطلاق لم يكن ودياً. جاء نتيجة خلاف جوهري بين من كانوا رفاق نضال طويل. حصل تبادل سكاني جزئي تحقق على وقع المجازر والفظائع وولَّد متطرّفين على جانبي خطي الحدود. وبعد مئات الألوف من الضحايا، كان الضحية التالية للتقسيم الاستقلالي «عميد المثاليين» والزعيم الأكبر غاندي، الذي اغتيل يوم 30 يناير (كانون الثاني) 1948. غاندي قُتل برصاص شاب هندوسي متطرف، اتهمه بتقديم التنازل تلو التنازل بأمل إرضاء المسلمين.
وبعدها، سار البلدان، الهند وباكستان، في مسارين مختلفين تماماً...
باكستان اندفعت في أحلاف «الحرب الباردة»، فالتحقت بحلفي جنوب شرقي آسيا (سياتو) وحلف «سنتو» («حلف بغداد» سابقاً) حليفةً للولايات المتحدة، ثم ارتبطت بعلاقة خاصة مع الصين إبان فترة الخلاف العقائدي السوفياتي - الصيني، والنزاع الحدودي الصيني الهندي في منطقة لاداخ. بينما اختارت الهند أن تلعب دوراً قيادياً في حركة عدم الانحياز، وأسرة دول الكومنولث، وأسرة الدول الأفروآسيوية.
باكستان أخفقت في تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي، فخرج جيشها من الثكنات واستمرأ السلطة. ومن ثم، بات الرقم الأساسي في السياسة الباكستانية والإقليمية والإسلامية، تارةً بصورة علنية عندما تولى الحكم جنرالات من الجيش (محمد أيوب خان، ويحيى خان، ومحمد ضياء الحق، وبرويز مشرف) لعقود عديدة، أو من وراء الستار عبر تجارب ديمقراطية قصيرة مهزوزة شوّهتها تهم الفساد.
في المقابل، في الهند، على الرغم من الفسيفساء العرقية واللغوية المعقدة، أفلح النظام الديمقراطي الفيدرالي في امتصاص الصدمات، واحتواء الحركات الانفصالية المتمردة، وإيجاد الحد الأدنى من التوازن بين مكوّنات دولة عملاقة يربو تعدادها السكاني على مليار نسمة. وللعلم، على الرغم من أن الهندوس يشكلون نحو 80 في المائة من السكان فإن نسبة تأييد حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي تبلغ نحو 31 في المائة فقط، وهو يحكم عبر ائتلافات وتحالفات، متاحة له ولغيره.
وجاء عام 1971 الذي دفعت فيه باكستان ثمناً باهظاً لواقعين؛ سوء إدارتها لوضعها الجغرافي غير الطبيعي (إذ تفصل بين جزئيها الغربي والشرقي عبر الهند مسافة 2208 كلم - 1372 ميلاً)، واستمرار العداء المفتوح مع الهند بسبب النزاع على كشمير. إذ استغلّت الهند الأزمة الداخلية التي تلت الانتخابات الباكستانية وتدخّلت عسكرياً داعمةً انفصال الشرق عن الغرب، وهكذا وُلدت دولة بنغلاديش.
في المقابل، في الهند، على الرغم من الديمقراطية والاستقرار والتطوّر التكنولوجي، ومع تراكم الأزمات وغياب القيادات التاريخية... خسر حزب المؤتمر هالته وبريقه. واستفاد التطرّف الديني والعرقي من شيخوخة الحزب التاريخي المؤسّس... وبرزت القوى الشعبوية المتطرّفة التي تهدّد اليوم علاقات الهند بعدد من جيرانها، بجانب تأجيج عدد من النزاعات الداخلية.
راهول غاندي إذا نجح، قد يشكّل مناسبة للمراجعة والكفّ عن الرهانات الإقليمية والعالمية الخطيرة. وقد يوقِف مسلسل التطرّف والتطرّف المضاد باسم الدين... الذي أثبتت تجارب مسجد آيوديا، وتفجيرات بالي، ومحنة الروهينغا، أن آسيا ما عادت بمنأى عنه.