سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

فضيلة العودة إلى الغابة

هذه المرة ليس كتاباً عن وثائق ولا مذكرات لرئيس دولة عظمى أو قائد حربي يكشف عن خفايا مثيرة، إنه مجرد مؤلف عن «الحياة السرية للأشجار»، لمهندس غابات ألماني كان مغموراً، يقوم بأبحاث وسط هكتارات من الخضرة، ومع ذلك تحولت كشوفه إلى «بيست سيلر». ومع أن الأمر فاجأ المؤلف قبل غيره، غير أن العالم سئم وحشية البشر، وغباء الإنسان وراح يبحث عن خلاصه مع أولئك الذين لم تشوههم المصالح وتنخر عقولهم الآيديولوجيات. وفي سابقة لافتة تحول موضوع بيئي، علمي، إلى محور اهتمام عالمي، وترجم الكتاب إلى 32 لغة بفترة قياسية، وبيع منه خلال ستة أشهر مليون نسخة، وصدر مؤخراً بالفرنسية، لتقتبس معلوماته في فيلم يعرض حالياً في الصالات، وكتاب آخر مبسّط موجه للأطفال. بيتر فوليبن صار نجماً، إذن، بعد أن اكتشف من خلال دراسات طويلة أن نباتات الغابة تتواصل بشكل جماعي بشبكة مذهلة من الجذور وشعيرات متناهية في الصغر، وأنها تشبّك فيما بينها كما البشر على الشبكة العنكبوتية، لتشكل مجتمعاً متضامناً، كما لم نرَ من قبل. التفاصيل غاية في الإثارة، وسنعود إليها. لكن المهم أن ما خلب القراء هنا أنسنة النباتات ومعرفة أنها عالم في حنوه وتآخيه وتعاضده أكثر رقياً من مجتمعات البشر، حيث يغيب عنها الغدر ولا تستسيغ الخيانة. وكما يجد النباتيون شيئاً من الطهر في التعفف عن اللحوم، ويعود جيل بأكمله ليبحث عن مأكولات عضوية خالية من السموم الكيميائية، يطارد القراء معلومات ترجع لهم الثقة بإمكانية عيش أفضل على طريقة الغابات، التي يتضح أنها أنبل مما كنا نتصور بكثير.
وكلما بلغت موجة عاتية ذروتها، وجد من يناهضها ويكافح ضدها لتستعيد الحياة شيئاً من توازنها، كما قال الفيلسوف هيدغر، ومثله عني فلاسفة كثر برصد السلوك الإنساني، لمعرفة إن كان انقلابياً أو أنه يعود دائماً إلى ثوابت أولى يركن إليها. ويبدو أن المزاج العام أميل إلى الفكرة الثانية التي قد توحي بالرجعية لكنها في العمق، تبقى كصمام أمان في زمن العواصف التي تقتلع ولا تذر.
عقلاء الناس يراجعون باستمرار صحة خياراتهم. فبعد أن أصبحت المتاحف من مقاييس الأمم المتحضرة، وجمع فيها ما تركه لنا من سبقونا على الكوكب، أخذت أصوات خبراء في المجال ترتفع وتنادي بفك أسر تراث هائل، تم السطو عليه من السلطات وحجبه، مع أنه ملك للناس أجمعين. ودعا هؤلاء إلى التمرد على فكرة سجن الإرث الإنساني بين الجدران، وفرض ضريبة دخول لمشاهدته، وكأنه يعني فئة محدودة. ولهذا أخذت قطع أثرية تخرج تدريجياً من مخابئها، لتوضع في أماكن عامة، وتعاد إلى أصحاب الحق. وفي مطار بيروت بمقدور المسافر أن يرى آثاراً رومانية وفينيقية، وجداريات وتماثيل وقوارير، ما كان المواطن العادي يعرف بوجودها.
وما ينطبق على التاريخ يصح على التكنولوجيا، فالإنترنت كانت مشروعاً صغيراً حبيس التعاملات البحثية العسكرية في وزارة الدفاع الأميركية حين قررت عام 1989 تحريره، وجعله مشاعاً. يومها هندس تيم بيرنر لي من بريطانيا، ما بات يعرف بعد ذلك بـ«أم الشبكات» التي سمحت لكل كومبيوترات العالم الارتباط معاً، ورفض تسجيلها باسمه أو المطالبة بأي حقوق للملكية الفكرية رغبة منه بجعلها للناس كلهم. ومع التفاؤل الكبير الذي عمّ بأن البشرية ستشهد حرية في التعبير والتدبير والأعمال غير مسبوقة، بدأنا بعد عقدين فقط نلحظ سيطرة الشركات الكبرى على الشبكة بشكل يكاد يصبح كلياً وهي تستحوذ بأموالها على المشاريع الصغيرة والأفكار العبقرية، وتشتري الاختراعات في المهد، وتمكنت السلطات السياسية من جعل الإنترنت وسيلة فريدة للتجسس على مواطنيها وإحصاء أنفاسهم. وهو ما ينذر بأن تمرداً ما لا بد سيولد ضد موجة الاستحواذ الأخطبوطية.
وبين الفعل ورد الفعل، ومنطق المد والجزر الذي يحكم السلوك، وفي لحظة حاسمة، يأتي كتاب «الحياة السرية للأشجار» وسط حالة من الفوضى السياسية العالمية، والانحدار الأخلاقي، ليقول بيتر فوليبن لقرائه إنه ومع فريق عمل صغير، رصد الحياة في الغابات وتأكد من أن منظومة من القيم المضبوطة تحكم حياة الأشجار وتمنحها السلام والسكينة، وهو ما يتوجب أن نسعى لنحاكيه ونستفيد منه. الكشوف المعلن عنها لا تصدق. مقابل الحياة البادية للعيان، ثمة أخرى أشد أهمية وأكثر ثراءً وتعقيداً تدور في الأعماق. وفي مقدار ملعقة صغيرة من التربة، يمكننا أن نقيس كيلومترين من الأقنية الصغيرة أو الشعيرات التي تضرب في التراب لتمتد تحت كل نبتة. وإذا ما هاجم حيوان أوراق شجرة فإنها تبث إشارات على مستويين في الهواء وفي التربة، لتنذر بقية الأشجار التي سرعان ما تفرز مادة على الفور تجعل أوراقها شديدة المرارة عصية على الابتلاع. أكثر من ذلك أن الأشجار المتجاورة تقع في الحب أيضاً، وبمقدورك أن تجرب قطع شجرة لترى أن تلك التي بقربها، ستصفرّ بعد مدة وتفقد حيويتها. وثمة بين الشجرات أمهات وأولاد، وأن الأم تحضن شجيراتها الصغيرات وترسل إليهن بالطعام في الأوردة الجذرية. وعن المشاعر والصداقة والإخلاص وأهمية الذاكرة للأشجار المقطوعة، والجذوع المكسورة، يكتب أيضاً بيتر فوليبن في الكتاب الذي فتن قراءه، بعد أن ملّوا جرائم الروايات وروائح جثثها ونكايات أبطالها وضيق أفقهم. الإنسان يعود إلى الغابة ويجد فيها ملجأ، بعد أن استشرى كل فساد، لعلها الصرخة التي يطلقها هؤلاء المرحبون بكشوفات فوليبن ومطالبينه بالمزيد.