نوح فيلدمان
أستاذ القانون بجامعة هارفارد وكاتب بموقع «بلومبيرغ»
TT

لاهاي وبطء العدالة غير المحتمل

جاءت حادثة انتحار مجرم الحرب الكرواتي سلوبودان برالياك، خلال جلسة محاكمة مفتوحة هذا الأسبوع، غريبة ولافتة، ربما لأنها بدت وكأنها مشهد ينتمي لقرن آخر. بالتأكيد، لا نزال نذكر جميعاً نجاح هيرمان غورينغ في خداع منفذي حكم الإعدام في نورنبرغ بتجرعه سم السيانيد، لكن اللافت بالنسبة لبرالياك أنه لم يكن ليتعرض للإعدام، بغض النظر عن أعداد الضحايا المدنيين الذين أدين بقتلهم. في الواقع، في إطار العالم شديد التحضر والبيروقراطية المميز للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، يتمثل أسوأ شيء يمكن أن يتعرض له مدانٌ السجن لفترة طويلة، مثل عقوبة السجن 20 عاماً التي صدرت بحق برالياك. في الواقع، مشهد الانتحار أمام المحكمة الذي يبدو منتمياً لحقبة زمنية مغايرة يحمل درساً مهماً؛ في الواقع، ثمة سبب وراء الشعور بأن مشهد انتحار برالياك ينتمي إلى القرن الـ20، وذلك لأنه في الواقع كذلك. لقد وقعت الجرائم التي أدين بها برالياك عام 1993، عندما ترك جنوده يحشدون أعداداً من المسلمين لذبحهم. وقد وجهت إليه اتهامات عام 2004، وسلم نفسه للمحكمة حينها. وأدين عام 2013، أي بعد 20 عاماً من وقوع الجرائم التي أدين بها، وجاء انتحاره بعد أربع سنوات في أعقاب رفض الاستئناف الذي تقدم به، وذلك عام 2017.
ويدور الدرس العام المستخلص هنا حول بطء وتيرة العدالة الجنائية الدولية، ولا يتعلق هذا الدرس بأوروبا وحدها. في الواقع، المحاكمات العسكرية الأميركية داخل خليج غوانتانامو في كوبا للمتورطين في هجمات 11 سبتمبر (أيلول) لا تزال جارية.
وثمة مشكلات ثلاث كبرى تتعلق بهذا البطء المفرط في العملية القضائية، ترتبط الأولى بالعدالة تجاه متهم بعينه، الذي قد يدعي غياب العملية القضائية المناسبة. المعروف أن المحاكمة السريعة واحدة من الحقوق الدستورية الأساسية داخل الولايات المتحدة ومعظم الولايات القضائية. ويكمن السبب الرئيس في أنه لا ينبغي احتجاز أي شخص لفترة طويلة للغاية دون إدانته، علاوة على أن مرور الوقت يجعل الشهود غير موثوق بهم، وقد يزيد من صعوبة تقديم متهم ما دفاعاً قوياً عن نفسه.
وتكمن صعوبة هذا النقد لدى تطبيقه على محاكمات لاهاي أو غوانتانامو في أن التأخير ربما أيضاً يكون نتاجاً لعملية قضائية حريصة على احترام جميع جوانب حقوق المتهم. وإذا نجح الدفاع في إبطاء وتيرة المحاكمة، فإنه لا ينبغي أن يحظى المتهم بالقدرة على استغلال هذا التأخير في الطعن في عدالة المحاكمة.
وتتمثل المشكلة الثانية المرتبطة بالبطء في قسوة احتجاز شخص ما لفترة طويلة للغاية، قبل تنفيذ عقوبة بحقه. من ناحيته، أقر القاضي السابق بالمحكمة العليا الأميركية، جون بول ستيفينز، رأياً يقول إنه من غير الدستوري تنفيذ حكم الإعدام بحق شخص ما عن جريمة اقترفها إذا ظل في انتظار تنفيذ العقوبة مدة 17 عاماً. ومن بين القضاة الحاليين الذين أقروا وجهة النظر ذاتها ستيفين برير.
وربما يوماً ما سيجري تطبيق هذا الرأي على متهمي غوانتانامو. وبافتراض أن بعضهم أو جميعهم ستصدر بحقهم أحكام بالإعدام، فإنه من المؤكد أنه ستكون هناك عملية استئناف طويلة ومعقدة قبل الشروع في تنفيذ الأحكام.
في حالة محكمة يوغوسلافيا، لأن تنبع القسوة من إبقاء المدانين في انتظار تنفيذ حكم الإعدام، لأنه مثلما الحال في أوروبا والجزء الأكبر من باقي مناطق العالم، لا يجري فرض عقوبة الإعدام من جانب هذه المحكمة. وإنما من الممكن أن يدفع البعض بأن قضاء فترة طويلة للغاية في انتظار حسم قضية المرء، يحمل في طياته بعض القسوة. بيد أنه من جديد سيكون من الصعب طرح هذا الادعاء إذا كان التأخير ناشئاً عن توخي الحرص في إجراءات المحاكمة والنظر في الاستئناف.
ويتركنا هذا مع أهم مشكلة تتعلق ببطء العملية القضائية؛ الفجوة المتسعة بين الجرائم والعقوبة النهائية. ربما لا يمثل هذا مشكلة من منظور العدالة الخالصة، لأن الأفعال المروعة ينبغي تناولها حتى ولو مر عليها زمن طويل. ومع هذا، تبقى تلك مشكلة كبيرة فيما يخص الجانب البراغماتي والرمزي لمعاقبة مرتكبي الأعمال المروعة مثل تلك التي وقعت في يوغوسلافيا.
عملياً، سيتضاءل بشدة التأثير الرادع للعقاب الأخير عندما يأتي العقاب بعد فترة طويلة من مثول الجناة أمام المحكمة. إن الشخص الذي يفكر في الإقدام على ارتكاب إبادة جماعية، ربما يفكر مرتين قبل اقتراف هذا الجرم، حال وجود تهديد وشيك بالعقاب. أما إذا كان هذا العقاب على بعد عقود عدة في المستقبل، فإنه مثلما الحال مع الكثير منا نحن معشر البشر، سيميل هذا الشخص نحو تجاهل هذه الاحتمالية للتعرض لعقاب في المستقبل البعيد.
رمزياً، تكمن مشكلة العدالة المتأخرة في الطبيعة البطيئة لعمل محاكم جرائم الحرب لدى مقارنتها بالصدمة الحادة والسريعة لغالبية جرائم الحرب ذاتها. وعندما تستغرق محاكمة ما فترة طويلة للغاية، لا تصبح المشكلة الكبرى أن الجرائم التي تدور حولها المحاكمة تصبح مبتذلة، وإنما أن المحاكمة ذاتها تصبح عملية بيروقراطية مبتذلة في حد ذاتها. وفي النهاية، يصبح من المتعذر على الجميع، خصوصاً على المتهمين أو الناجين، الشعور بوجود ثمة صلة بين المحاكمة وبين الأحداث الفعلية التي أدت لعقدها.
في الواقع، يبدو مشهد انتحار برالياك لافتاً على نحو بالغ لأنه جاء شديد الجدية والتطرف والسرعة، ما وضعه على النقيض تماماً من رتابة إجراءات المحاكمة. ومع هذا، قريباً سننسى أمر برالياك، مثلما نسينا جميع المحاكمات التي تستغرق مثل هذه الفترة الطويلة، وهنا تحديداً تكمن المشكلة.
بالاتفاق مع «بلومبيرغ»