د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

القوة الناعمة العربية

سمعة العرب في العالم ليست على ما يرام، وهي في العادة تترجم إلى صور نمطية عن «البدوي» المتخلف، و«الإرهابي» العنيف، و«الملياردير» الذي لا يعرف كيف ينفق أمواله، ورجل البازار الذي يبحث دائماً عن المساومة أو الحصول على «بقشيش»، وإذا كان هناك من فن فهو لدى تلك الراقصة التي تتلوى مستدعية الإغواء والرغبة. هم قوم - وهكذا تقول الصورة - مختلفون طوال الوقت، ويتبعثرون عند أول منعطف، ورغم أحاديثهم الكثيرة عن «الوطن العربي» و«الأمة العربية»، فإنهم منقسمون ومتحاربون في كل مرحلة.
الأكثر قسوة في الصورة هو ما درجت عليه التقارير العالمية التي تضع دول العالم في مراتب ودرجات في التنمية البشرية والتنافسية وممارسة الأعمال؛ فإنه مهما تقدمت دول عربية في الترتيب، فإن الحكم يكون في النهاية على أن الأدنى ترتيباً هو المعبر عن كل العرب من المحيط إلى الخليج.
بالطبع فإن مثل ذلك ليس سائداً بين جميع المواطنين في العالم شرقه وغربه بالمطلق؛ لكنه سائد إلى حد كبير في الدول الغربية، وبين دول العالم النامي في الشرق والجنوب فإن مثل ذلك سائد بين النخب الثقافية والإعلامية التي تتأثر بالغرب دائماً.
هذه الصورة السلبية ليست مجرد دعاية أو إعلان، أو نوعاً من الخصومة السياسية أو الاقتصادية أو الاستراتيجية، وإنما هي في الأصل تعبير عن مصالح، وجهود قوى مختلفة مناوئة للعرب، ولهم وجود كثيف ومؤثر في الغرب. ولكن جزءاً كبيراً من الأسباب يعود إلى أن العرب لم يتمكنوا بعد من فنون الاتصال. المسألة ليست أن العرب ليسوا ديمقراطيين أو ليبراليين؛ لأنه لا روسيا ولا الصين من الدول التي ينطبق عليها هذا الوصف؛ لكنهما في الموازين الغربية دولتان «قويتان» ولديهما زعماء أقوياء يتلقون الإعجاب من قبل رئيس الولايات المتحدة شخصياً. والمسألة ليست أن العرب متخلفون اقتصادياً، فبين العرب يوجد الغني والفقير، والمتقدم والمتأخر، وإذا حسبت المتوسطات فإن العرب (350 مليون نسمة) أفضل حالاً بكثير من أكثر من نصف سكان الهند والصين، وهم يتعدون المليار نسمة. والمسألة ليست أن العرب متخلفون في الفنون أو في الآداب، فالحقيقة المعقدة هي أن العرب لديهم آدابهم وفنونهم، وهي ليست عالمية بحكم اللغة، رغم أن كثيراً منها تجري ترجمته، ولكنهم في ذلك لا يختلفون كثيراً عن قرنائهم في الهند والصين وغالبية سكان العالم الذين تستبد بهم الفنون والآداب الغربية، لأسباب ليس هنا مجال ذكرها.
ولكن القضية هنا ليست مدى العدالة الموجودة في تقديرات السمعة العربية والصور النمطية عن العرب، إلا أن هذه وتلك تضع العرب دوماً في موضع الاتهام إذا فعلوا وإذا لم يفعلوا. خذ مثالاً الإصلاحات التي تجري حالياً لدى عدد من الدول العربية، وفي المقدمة منها مصر والسعودية، وهي إصلاحات طالما طالبت بها الدول الغربية، وما إن جاء وقت تطبيقها، فإنه سرعان ما نجد تحذيرات متوالية من نتائج الإصلاح التي قد تهز المجتمعات وتحد من استقرارها. اللعنة قائمة إذا ما لم يكن هناك إصلاح، والتهمة جاهزة عن أصحاب المصالح في الركود وما أصابهم من مس التحكم والسيطرة؛ واللعنة قائمة أيضاً إذا ما تغير الحال، وكانت هناك خطط شجاعة للتغيير وتحسين الأحوال وجلب المنفعة. التغيير الهيكلي لمصادر الدخل، فلا تكون مصر دولة قائمة على السياحة، ولا تكون السعودية دولة قائمة على النفط، وإنما هنا وهناك تعدد المصادر وتجرى مشاركة الناس في تنويع مصادر الدخل، لا يعني أكثر في عيون أصحاب هذه الصورة النمطية إلا مزيداً من الفساد.
كل ذلك لا يمكن تجاهله، ولا بد من مواجهته إذا كان مقدراً لجهود الإصلاح الراهنة أن تنجح، وبعض مما نواجهه الآن واجهته دول قبلنا. فالصورة السلبية للصين كدولة شيوعية فقيرة متعصبة ومنعزلة تهدد كل من حولها، تغيرت كثيراً بفعل الانطلاقة الاقتصادية الكبرى من ناحية، وأن الصين الآن، وليس أميركا، هي التي تتبنى «العولمة» وتدافع عنها. الهند كانت سلة من التخلف والفقر، ولكن الثورة الاقتصادية الرقمية دفعتها كثيراً إلى الأمام. روسيا بعد انهيارها الكوني استعادت كثيراً من الاحترام والمهابة باستخدامها للقوة في أوكرانيا وسوريا؛ بل وتدخلها السيبراني في الانتخابات الأميركية. لم تعد روسيا دولة يلتسين السكير المنهارة المفككة، وإنما صارت فاعلاً أساسياً في العلاقات الدولية؛ ربما ليس إلى الدرجة نفسها التي كان عليها الاتحاد السوفياتي من قبل، وإنما في درجة أعلى مما كانت عليها بعد سقوطه؛ وعلى أي الأحوال فإن المنافسين في الولايات المتحدة في عهدي أوباما وترمب، والاتحاد الأوروبي بعد «البريكست» البريطاني، لم يعودوا كما كانوا من قبل، من حول وطول وثقة بالنفس.
مهمة العرب في استرداد السمعة رغم الصعوبات القائمة أمامهم ليست مستحيلة، كما أنها ضرورية مهما كانت الصعوبات. وربما كان جزءاً من المعضلة أن الحديث عن «العرب» فيه كثير من المبالغة؛ لأن العرب متباينون كثيراً، وربما يحتاجون كتلة في القلب منهم تقود التطور والتغيير واقتحام العصر. هناك بالطبع ما لدى «العرب» من جغرافيا في قلب العالم القديم، وتاريخ ممتد لآلاف السنين، وموطن للديانات السماوية الرئيسية، والحضارات الأعظم في تاريخ البشرية، ما يكفي لكي لا يشعر أحد بالتباهي عليهم، ولا يبرر عقد النقص السائدة لدى جماعة من المثقفين العرب. ولكن الأكثر أهمية من كل ذلك أن المنهج الإصلاحي الجذري اكتسب كثيراً من قوة الدفع خلال السنوات القليلة الماضية، وليست صدفة أن توجد لدى مصر والسعودية برامج كبرى للتحديث، تصل إلى عام 2030، وهناك برامج مماثلة - حتى ولو أخذت تسميات أخرى - في الأردن وتونس والمغرب، في دولة الإمارات بات نصيب النفط فيها أقل من 30 في المائة من الدخل المحلي الإجمالي. ولم يكن بناء متحف «اللوفر» في أبوظبي إلا لقاء بين الحضارات العالمية والحضارة العربية، يماثل ذلك اللقاء الذي جرى في ستينات القرن التاسع عشر، وتم فيه بناء مبنى «الأوبرا المصرية» لتخرج فيها مصر من عباءة الفن العثماني لكي تدخل إلى مظلة الحضارة العالمية.
إنقاذ السمعة العربية جزء من عملية الإصلاح الحالية، ويتفاعل معها، ولكن ربما ينقصه القدرة على التواصل والاتصال، وباختصار: الرسالة التي ينبغي أن تكون واضحة ونقية من الضوضاء والتلعثم، وحازمة في توجهاتها الإنسانية، ونائية عن ثقافة المؤامرة، ومتداخلة مع الجهود البشرية لإنقاذ الدنيا من أمراضها، من أول الفقر وحتى الاحتباس الحراري. باختصار: أن يكون العرب جزءاً من العصر، وليسوا جملة اعتراضية عليه؛ ولا يعني ذلك بأي معنى ألا يصير العرب عرباً، فربما كان ما لديهم من حضارة أصيلة هو أهم ما يقدمونه للدنيا.